-A +A
أحمد عجب
سبق أن كتبت في هذا العمود المائل مقالا عن (الإعسار وقهـر الرجال)، تطرقت من خلاله لمراحل التقاضي الطويلة التي مر بها ذلك الإنسان لاسترداد فلوسه (تحويشة عمره) بعد أن تعرض ومجموعة معه لعملية نصب واحتيال، وكيف أنه بعد الصبر والجهد المبذول من قبلهم وإيداع المحكوم عليه السجن، عادت المعاملة من جديد للمحكمة العامة من أجل النظر في مطالبته إثبات إعساره، وقد أوضحت تفاصيل الجلسة وصورت حالة التشنج والغضب الشديد التي كانوا عليها أصحاب الحقوق تجاه خصمهم العنيد، وإصرارهم على أن يدفع المبالغ التي أخذها كاملة، وكيف أن الأمور كادت أن تتأزم داخل المجلس الشرعي حين قال لهم إنه معدم وهذا آخر كلام عنده !؟.
بعد نشر المقالة توالت الردود عليها، حيث رأت الدكتورة انتصار أن الإعسار يجب أن تتحقق منه الدولة قبل سجن المتهم ولو لثانية واحدة ويمكن مصادرة كل أمواله إلا ما يلزمه لاستمرار الحياة له ولأسرته وأن الدولة غير مسؤولة عن الثقات المالية بين المواطنين، فيما ناشد الدكتور عادل المسؤولين منع الحبس ولو لساعة لأي تعاملات تجارية وعدم التلاعب بالألفاظ في وصف الجرم بأنه تحايل، ليضيف الدكتور محمد سليمان بأن ذلك يخالف البند 11 من اتفاقية حقوق الإنسان الذي يمنع حبس من أخل بالالتزام التعاقدي.

بعد مرور ست سنوات على نشر المقالة، حضرت بالأمس إلى محكمة التنفيذ ليتكرر معي نفس المشهد حيث وجدت ذلك السجين يجلس أمام القاضي الذي استدعى كافة (المحكوم لهم)، رأيته بنفس الهيئة يجلس بالصف الأمامي ويلف الشماغ حول عنقه ويداه في الكلبشات، وحين سأله القاضي : كم لك الحين في السجن ؟! أجابه : لي تسع سنوات يا شيخ خمسه منها حق عام وأربعة حق خاص، وعندما سأله: وليه ما تعطيهم حقوقهم وتبري ذمتك، أجابه : لو كنت أملك المال ما جلست دقيقة واحدة بالسجن حتى بناتي كبرن وتزوجن وأنا بعيد عنهن، عندها نظر القاضي إلى الخصوم وسألهم: هل عندكم حلول ودية أخرى، وأمام ذلك توقعت بأن تتكرر ردة الفعل السابقة بل أسوأ منها لكنني تفاجأت ببرودة أعصابهم وتقبلهـم لنقاش أي مبادرة يمكنها أن تنهي فصول هذه المعاناة المستعصية!!.
من المحكوم لهم من أوضحوا بأنهم تنازلوا عن جزء كبير من المبالغ المحكوم بها في سبيل تحصيل حقوقهم المتبقية، ومن المحكوم لهم من أبدوا هذه المرة عدم ممانعتهم من إطلاق سراح السجين ومنحه مهلة لتدبير أموره من خلال علاقاته مقابل كفالة غرم وأداء من رجل مليء، ومن المحكوم لهم من أشار إلى ضرورة الاستعانة بجمعية (تراحم) أو الرفع لإمارة المنطقة لحث أهل الخير ليسددوا عنه، ومع أن الجلسة انفضت دون الوصول لحل، إلا أن القاضي أثنى كثيرا على حضور الخصوم وشكر لهم هدوءهم، وقبل أن يأمر العسكري بإعادة المحكوم عليه إلى السجن حثه على السداد من جديد إذا كانت لديه أموال يخبئها، فيما حث الخصوم على إيجاد حلول ودية أخرى، وقد أشار فضيلته إلى عدد من الملفات الموجودة على مكتبه وقال بأنها لقضايا مشابهة، وأن جميع المحكوم عليهم فيها يقبعون داخل السجون وقد طوتهم السنين وتقدم بهم العمر ونتائجهم النهائية لا تخرج عن : لم يدفع منهم أحد !؟.