-A +A
أحمد عجب
هناك فئة من الناس، يرون أن العزاء يجب أن ينتهي بمجرد مواراة جثمان المتوفى الثرى، ومغادرة الجموع المشيعة لسور المقبرة، هؤلاء الناس لا يعترفون أبدا بمدة العزاء المتعارف عليها، ويرفضون رفضا قاطعا مسألة الوقوف مع ذويهم لاستقبال المعزين في فقيدهم، وإن وافق أحدهم على مضض، فإن أكثر ما يستفزه أن يأتي أحد بسيرة صنع الطعام، حتى وإن كان ذلك بقدر ما يكفي أهل الميت، هذا الأمر قد يجعله يخرج عن طوره فيجمع حاجياته ويقرر السفر فورا لمقر إقامته، واصفا ما يجري بالمنكرات التي لا يجوز إقرارها ولا حضورها !؟
مع أنني أنبذ التنطع ولا تستهويني أفكار أولئك المتشددين، ومع أنني أحترم كثيرا تلك العادات والتقاليد الخاصة بمراسم العزاء بمجتمعنا، وأرى أنه من العيب بل ومن المخجل جدا، أن تأتي وفود لمقر العزاء فلا تجد في استقبالها سوى قلة قليلة، ومع أنني لمست عن قرب مدى أهمية أن يلتف المعارف حول أسرة الفقيد فيخففون عنهم مصابهم بقضاء أغلب الساعات عندهم، ومع أنني أتفهم كثيرا ما يقوم به أحد الجيران أو القرائب من إحضار وليمة لأهل المتوفى وللناس الذين تركوا مشاغلهم ووقفوا معهم في محنتهم منذ الصباح الباكر.

مع هذا كله، إلا أنني حين بحثت الأمر من زاوية موضوعية، وجدت أن الحدة التي يكون عليها ابن المتوفى أو أخوه وقد ناهز الخمسين من العمر (بمعنى أنه ليس بصغير ) لم تأتِ هكذا من فراغ، فرؤيته أو رفضه أو حتى زعله من تلك الممارسات التي تحدث في العزاء لها ما يبررها (على الأقل من وجهة نظره) وحتى لا نكذب على أنفسنا فإننا نحن أيضا وفي أحيان كثيرة ينتابنا نفس الشعور ، الفرق بيننا ، أننا مضطرون للمجاملة ومسايرة الوضع غير الملائم حتى تنتهي الأيام الثلاثة، أما هو فيجدها فرصة ثمينة ليبرر موقفه الرافض ويلفت الأنظار إلى مدى تدينه !!.
ربما تجد في الساعات الأولى من خبر الوفاة مسحة حزن على وجوه الحاضرين لمجلس العزاء، بعدها يبدأ النقاش حول الظواهر السلبية بالمجتمع وكأنك أمام برنامج حواري، ثم ينتقل الحديث حول المال والاقتصاد وكأنك في صالة الأسهم، ثم يتحول الكلام إلى مباريات الدوري وكأنك أمام استديو تحليلي، ثم تسمع بعد ذلك الضحك والقهقهة وربما تبادل النكات والمواقف الطريفة، وقبل أن تفيق من صدمتك، يأتي ذلك الصوت الذي يكاد يشق الجدار (أرحبوا حياكم الله.. تفضلوا للعشاء) ومع أنك تتوقع بأن الجميع مالهم نفس وإنما من باب المشاركة، إلا أن من يرى السفرة بعد قيامهم منها يشك بأن من كانوا جالسين عليها أوادم بل تماسيح أو نسور جارحة !؟
أحيانا تأسرك تلك الجدية التي يكون عليها أهل المتوفى والمعزين في بعض الدول العربية، حين يتبادلون العزاء ثم يجلس كل منهم على كرسيه منصتا إلى صوت القارئ ، ويأسرك أكثر وفاؤهم للمتوفى حين يقيمون له بعد أيام وربما بعد شهر أو سنة (حفل تأبين) يسترجعون من خلاله مآثر الراحل ويعددون خصاله الحميدة، سواء من خلال أبيات شعرية أو خواطر يصدح بها صديق عمره وأقرب الناس إليه، وشتان بين المشهدين هنا وهناك!!.