-A +A
فؤاد مصطفى عزب
في نهاية كل أسبوع أحاول أن أتخلص من عادة التكرار ومن العالم المحدود الذي نتصارع داخل أسواره بالفرار إلى فندق صغير يجاور منزلي في محاولة لكسر روتين الحياة .. أمد ساقي .. أتوجه إلى المبنى على قدمي .. أجلس على مقعد خارجي في حديقة الفندق أرفع القيود عن جسدي أمارس نعمة الصمت أتناول قدحا من القهوة بالحليب وقطعة من الكراسون خرجت للتو من الفرن .. هذا الأسبوع كان الجو صافيا .. كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء تلكأت قليلا في المشي لأستمتع بالجو الجميل الذي تعيشه جدة هذه الأيام.. ما أن وصلت باب الفندق حتى فوجئت بسيل من السيارات تروح وتجيء.. زحام حول الباب الصغير للفندق الذي يقف أمامه اثنان من الحراس يرتديان ملابس كحلية اللون .. من حولي أصوات مرحة وضحكات ووجوه مقبلة على الحياة وعلى سهرة كما يبدو فيها فرصة للاستمتاع كان بالفعل هناك «حفل زفاف» عرفت ذلك من اللوحة المنتصبة في مدخل الفندق .. لمحتها تتسلل وسط التجمعات صغيرة الحجم نحيلة الجسم طفلة بشرتها سمراء وعيناها سوداوان فيهما شعلة جوع ترتدي ملابس رثة ظلت عليها لفترة حتى صارت جزءا لا يتجزأ من بشرتها .. أتصور لو أصيبت بحادث لاقتضى الأمر تدخل فرقة جراحية لساعة لعلهم ينزعون عنها الأسمال البالية قبل وضعها على طاولة العمليات .. في يدها مناديل مختلفة الألوان وعلى شفتها ابتسامة مشرقة كمصباح عتمة الممر تتحرك بين الواقفين على الرصيف ترفع إليهم عينها دون استجداء لا يلتفت إليها أحد ما عدا الحارسين المنتصبين عند الباب فكلما اقتربت أكثر من مدخل الفندق تلفظا عليها بألفاظ غليظة خشنة تدفعها بعيدا عن المكان أسلوب فيه درجة من العنف يجبرها على الابتعاد كانت تستسلم لرجال الأمن أمام مقاومة غير عادلة.. أدخل الفندق أستمر في مراقبتها عبر الزجاج لأجدها قد عادت إلى التسلل وسط التجمعات بين الشباب والشابات الذين يهبطون من السيارات «الميتاليك» اللامعة، تفوح منهم رائحة العطر وتتردد الكلمات العربية المختلطة بعبارات إنجليزية.. في ملامحهم سعادة.. لا أحد ينتبه للطفلة تتحرك هنا وهناك تتسلل بين سيقانهم رافعة عينيها إليهم في صمت كأنها تريد أن ترى ما الذي سيفعلونه عندما تعرض عليهم مناديلها.. تقترب من أحد الشباب يدفعها بقسوة ترتمي على الأرض ودمعة نافرة من عينيها.. تنهض من الأرض وهي تنفض التراب الذي لحق بملابسها والذي لا يختلف لونه عن لون ما ترتديه.. تبتعد باكية.. ما أشد توقي للقيام بشيء ما.. أتناول صحيفة أمامي.. صور لقتلى وأطفال مصابين وهلع في العيون.. ابتسامة لوزير الخارجية الروسي.. الذي يفعل عكس ما يقول.. أثار انتباهي عنوان في غاية الغرابة تحت العنوان خبر يوضح أن الإحصائيات الرسمية في دولة أفريقية أظهرت زيادة عدد الحمير وأنها حققت أعلى نسبة سنوية بين الدواب بلغت 20 %، ضحكت كان بجوار الخبر فتوى من أحد المشايخ التي تغلق فتاواهم أمامنا منافذ الحياة، وهو أن ضرب المرأة جائز ويسهب المناضل وبصفاقة واستهجان واحتقار وإهانة في شرح كيفية وطريقة الضرب.. المرأة غدت نمرة رائجة وضربا من الأوبرا الهزلية لكل مهووس بالظهور صار التحدث عن المرأة «أمي وأختي وحفيدتي وزوجتي» وكأنها كائن قادم من المريخ وليست بشرا.. شعرت بخجل وأنا أكمل استعراض طريقة وتفاصيل الضرب.. بالله عليكم هذه الفتوى السخيفة يقولها شخص مصاب بقصور البصر الروحي وبدلا من أن تذهب إلى قنوات الصرف الصحي تذهب إلى أذن شاب متزمت متطرف متشدد فتمنحه شجاعة رعناء فيبطش بابنتي أو ابنتك هل هناك قول جهنمي أكثر من هذا في هذه الحياة الدنيا.. هل هذا القول له مكان في القرن الواحد والعشرين.. هل ما يقوله هذا الموتور يتناغم واتفاقية «سادكو» والتي وقعت عليها حكومة السعودية كدولة متحضرة.. يبدو أن أحد إخفاقات هذا القرن أن ترزق أمة بمن يفكر بهذه الطريقة الشاذة.. فكر يصيبك بالذعر والإهانة والازدراء العميق.. الغرب يتفننون في إظهار عواطفهم الجياشة تجاه المرأة ويتفاخرون بذلك ويعتبرونها أوفى الأوفياء ونحن نتفنن في ضربها.. عندما احتل الملك كاونراد الثالث قلعة ((ونسبرنج)) الألمانية أمر النساء فقط بالرحيل وحمل ما يمكن حمله فقمن بحمل رجالهن الجنود على أكتافهن وأطلق على القلعة لاحقا اسم «قلعة النساء الوفيات» لا شيء في الواقع يستنفد مجهودا فكريا لأمة تسخر جل وقتها لعقاب نصف المجتمع وبشكل منهجي.. من يحب لا يرفع يده على من يحبه.. الزواج علاقة احترام متميزة بين شخصين.. شعلة توقدها السماء في نفس الرجل، مصباح يبحث المحبوب في ضوئه عما يحب في كل تحولاته.. أرقى الحضارات هي التي قامت على العقل وأقوى منها ما قام على العاطفة والرحمة والاحترام والاعتراف بحقوق الآخر.. الأنثى هي البطارية التي نستمد منها طاقتنا.. نعتني بها.. نعطف عليها.. ندللها.. نحميها لا نعتدي عليها.. أزحت الصحيفة عن متناول بصري بعيدا ولكنني عجزت أن أوقف أفكاري الدائرة في رأسي.. كفى.. كفى.. لقد طال هذا الأمر أكثر من اللازم.. كفاكم زرع التوتر البغيض في قلوب الشباب.. ازرعوا الاحترام في النفوس.. ازرعوا العاطفة والرحمة في البيوت.. اجعلوا الحياة جديرة بأن تعاش.. مهم جدا أن تلتصقوا بالحياة الواقعية.. انزلوا من منابركم لواقع اليوم.. الواقع اليوم يشكل قارة نادرا ما تزورونها لقد أتلفتم التفاهم بين الإنسان والإنسان.. حولتم المرأة إلى إنسان مهان.. المرأة ليست بأصغر منكم.. عدت إلى منزلي وضنك يحتلني أحاول أن أطرد صورة الفتاة الملقاة على الأرض تبكي من ذهني.. حنقت على هذا المجتمع الظالم ألا مبالٍ هذا العالم الذي يتزايد فيه عدد الوجوه ويشتد الشبه بينهما يوما بعد يوم.. غرقت في الصمت والحزن وتاه بصري في الفراغ.. ماذا يعني تعاطفك مع شخص غريب !! كيف لك أن تستثني الجسد الذي تملكه من هذا التعاطف.. هل يظل الإنسان إنسانا إذا جرد نفسه من عواطفه الضالة.. أحيانا أغبط من يعيش بلا وعي.. يشهق ويزفر ورئته تشتغل مثل منفاخ آلي.. ينسى ما يشاهده بسرعة ويقول قولا طائشا ثم ينام دون متاعب نفسية لأن ما بداخله تلف!!.