-A +A
أحمد عجب
بعد أن وصل الموسيقار فان بيتهوفن العام 1802، لقمة شهرته كعازف بيانو ومؤلف موسيقي، بدأت حياته تأخذ منحى آخر حين أصيب بالصمم وهو في الثلاثين من عمره، فاعتزل الناس والحفلات الفنية، حتى استدل يوما على طريقة عجيبة تمكنه من سماع ألحانه، وهي وضع طرف القلم في فمه والطرف الآخر على «البيانو» الذي يعزف عليه، مما يمكنه من سماع النغمة من خلال عظام فكه، وقد نجح بعدها في تأليف أروع السيمفونيات الخالدة، عندها قال عبارته الشهيرة (يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي، أو يسمع آخر غناء أحد الرعاة، بينما أنا لا أسمع شيئا، كل هذا كاد يدفعني لوضع حد لحياتي اليائسة، إلا أن الفن وحده هو الذي منعني من ذلك).
في زمن عمته الحروب والصراعات والأفكار المتطرفة، كم نحن بحاجة إلى مثل هذه الروح المحبة للحياة، كم نحن بحاجة إلى مقطوعة موسيقية كلاسيكية تشعل الشموع في قلوبنا فتنيرها حبا وتآلفا؛ لهذا فإن تلك الحصة الأسبوعية التي كان يأخذنا فيها الأستاذ لمكتبة المدرسة، تظل من أجمل الذكريات على الإطلاق، خاصة عندما كنا نتسابق للوصول إلى آلة الطرق (الإكسيليفون)، وهي عبارة عن قضبان معدنية مختلفة الألوان بمجرد الطرق عليها تحدث رنينا موسيقيا حالما ينثر الفرح بداخلنا ويرسم الابتسامة على وجوهنا، هذه الآلة الموسيقية الوحيدة اختفت من وجودنا، رأيتها آخر مرة ملقاة ومهشمة خارج سور المدرسة، بعد أن اختطفتها يد التشدد وحزت أوتارها!!

حاجتنا للاستماع والدندنة، لا ينكرها أحد، الخلاف الدائر فقط هو حول نوعية ما يمكن سماعه؛ لهذا لم يعد بالأمر المستغرب أن تدخل إلى محل أستريو يطل على شارع رئيسي، فيقتحم المكان شاب ملتحٍ يرتدي ثوبا قصيرا وعمامة دون عقال، لا ليلتقي النصح والإرشاد كما تعتقد، وإنما ليطلب بكل حماس كاسيت (شيلات جديدة)، والمدهش أكثر حين يأمر صاحب المحل بإسماعه بعض المقاطع ورفع الصوت أكثر، إنها باقة من الأشعار الحماسية والأغاني العاطفية استبدلت موسيقاها بمحسنات صوتية ومؤثرات بشرية، كلاهما يعطي النتيجة نفسها، إنها أشبه ما تكون بمحاولة تهريب رجل متهم بعدة جرائم من خلال إصدار جواز سفر مزيف يحمل بيانات مغايرة ويبقي على الصورة الشخصية نفسها؟!
إن أردتم رأيي فأنا لا أحب الشيلات أبدا، بل أنني أراها مفسدة للذوق العام، ولا يمكن مقارنتها ولو بواحد بالمئة مع السيمفونيات العالمية الهادئة مثل: ضوء القمر لبيتهوفن، وبحيرة البجع لتشايكوفسكي، والناي السحري لموزارت، فالشيلات بما فيها من تمتمات مزعجة وأصوات نشاز، لا ينصح بسماعها وأنت ترتشف قهوة الصباح بذلك الركن الهادئ؛ لأنها مع فورة التفاعل والرقص المصطنع ستندلق عليك لا محالة، وكل ما أخشاه أن تتطور جراءة هذه الصناعة، لنتفاجأ بعد غد بفيدو كليب شيلات يستعرض مقاطع بدائية من واقعنا المرير، لفلل سكنية دون نوافذ، ورجل يضع الشماغ بمطعم عام كساتر إضافي لزوجته، وآخر يقتحم منصة تقديم البرنامج ليطالب المذيعة بتغطية وجهها، وما بينهم شاب في مقتبل العمر حمله فكره المتطرف والمعادي إلى وضع حد لحياته بتفجير نفسه بحزام ناسف!!