-A +A
فؤاد مصطفى عزب
لدي صديق مستشار عرفه الكثيرون محاميا بارعا نزيها وعرفته قيمة قانونية مثقفة رفيعة المستوى وصديقا حميما إلا أن ما لا يعرفه الكثيرون عنه أنه حكاء عظيم يتقن سرد الحكايات الحقيقية الفريدة النابعة من طبيعة مهنته واطلاعاته الغنية الدولية المنتقاة والمتنوعة بحيث يستولي على آذان مستمعيه. نشأت بيننا علاقة ثرية فنحن نشترك في أشياء كثيرة فهو من دعاة عدم التسليم بما لا يتفق مع العقل وأنا كذلك.. رجل متدين مستنير من أسرة كريمة يربط التعاليم الدينية والأخلاقية بالواقع المستوحى من تجاربه الواسعة.. يختلف عن بعض المحامين الذين يستطيعون أن يقنعوا الميت أنه ليس جثة.. روى لي قصة فريدة عن حنكة قاض في إحدى محاكم الأسرة لروعتها أحببت أن أشارككم إياها.. هي قصة رجل وزوجته شغلهما هم خاص ونزاع، كانت القاعة من الداخل يخيم عليها صمت كثيف إلا من نحنحات وهمسات مكتومة وصوت تقليب الأوراق.. في الخارج كان هناك رجل طويل نحيف يبدو حين ينشر ذراعيه في ثوبه الأسود الفضفاض كوطواط بشري كان يقطع قاعة الانتظار ذهابا وإيابا يرتفع كتفاه الضيقان حتى يكادا يلامسان أذنيه كان ساهما زاهدا يدخن بشراهة رغم العلامة البارزة بوضوح والتي تشير إلى عدم السماح بذلك.. كان مضطربا وحزينا.. كان يجتهد في تهدئة نفسه المطوقة وهي تضرب بجناحيها كحد سكين.. سمع صوتا من الداخل يستدعيه فاتجه إلى القاضي وكأنه يتجه إلى حي مغلق ليس له إلا باب واحد.. وقفت إلى جواره سيدة مسنة ما زالت جميلة وفارعة بيضاء كنهايات الموج في تحليقه كانت منتفخة ككيس طحين من الغضب كان وجهها يخطو في عقده الخامس.. كانت صامتة صمتا كثيفا يحجب عن عيون أقرب الناس إليها إعصارا داخليا صوت القاضي أفزعها فأصرت على الطلاق.. أمها وجه يغرق في التوسل إليها «لا تطلقي زوجك يا بنتي في هذا السن» أصرت وما زالت مصرة فجأة انفجر القاضي في الزوج موبخا في لحظة خاطفة أسرع من ومض البرق في السماء.. أأنت من كان يدخن في قاعة الانتظار كما قيل لي!!! أومأ برأسه ولم يقل شيئا ولم يتطلع للقاضي.. دارت بعينيها تبحث عمن يقصد القاضي.. تبين لها أنه يقصد زوجها الذي ستطلق منه.. بدا لها كفأر مكتوم اللون من التجريح والمهانة.. يا له من رجل هزل في أيامه الأخيرة.. وجهه مستطيل وعيناه غائرتان حولت وجهها عنه والتفتت إلى الأمام وغرقت في كآبة وحيرة واستعصاء فكر.. كرر القاضي.. هل كنت تدخن في قاعة الجلوس كما قيل لي؟ أجابه الزوج وهو مطرق الرأس زائغ العينين سارحا بصوت خفيض إنني لم أعرف أن ذلك لا ينبغي هذه أول مرة في حياتي أحضر إلى «محكمة» قبل أن يتم جملته انقض القاضي بسؤاله التالي ما اسمك؟؟ جندي!! لماذا لا ترتدي ملابسك الرسمية!! قدمت استقالتي!! قدمت استقالتك!! لماذا تحتفظ ببطاقتك العسكرية إذن!! إنني أستطيع أن أسجنك لذلك!! كان الجندي المسن يتكلم بكلمات غير مترابطة بعضها مفهوم وبعضها الآخر غامض قال له إنما احتفظت بالبطاقة حتى تنتهي الأمور فأسلمها فصرخ القاضي لست أهلا لحملها أنت لا تحترم القانون تدخن في المحكمة واستمر القاضي كطاحونة لا تكف عن الدوران في مهاجمة الرجل والسيدة ترى زوجها على قدر من سوء الحال وحال من الهوان قالت للقاضي إننا هنا لنناقش أمر طلاقنا فلماذا لا تمضي بالأمر إلى مساره فصرخ بها ألا يمكنني أن أتحقق من شخصية المتنازعين وأحاسب من يحمل بطاقة لا يستحقها فصرخت به كثور يافع مطلوق ناقش طلاقي يا سيدي ولا تهدده بالسجن.. لوح القاضي بيده عاليا وقال لها أنت تدافعين عن خصمك فدقت السيدة على المنضدة بقبضتها وتكلمت في وجهه حتى لفحته أنفاسها لا بأس إن دافعت عنه إذا كنت أنت تؤذيه هو أب أولادي وجد أحفادي في النهاية.. ابتسم القاضي ابتسامة ساخرة قال لها تعطفين على خصمك وتميلين إليه.. احمر وجه السيدة وفاضت الدموع من عينيها.. قال لها القاضي إذن لا محل للخصومة بينكما ثم رفع سبابته وصوبها إلى وجه السيدة قائلا إنني سأشطب القضية ومال القاضي على كاتبه وكلمه أن يشطب القضية ابتسم الزوج ابتسامة عريضة معتدا كأنه ملك على كل الملوك ثم ركض كالممسوس إلى خارج القاعة وانخرط في النشيج تنحدر الدموع من عينيه يمسحها بظهر كفه في صمت يبكي على ما حدث ويبكي لأنها تبكي!!