-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عندما قرأت رواية «زوربا» اليوناني لنيكوس كازانتزاكي في مرحلة مبكرة من حياتي أصبت بالدهشة فلم تكن تلك الرواية مجرد رواية كانت كتاباً فلسفياً عميق التأثير لشاب في مقتبل العمر تعلمت من تلك الرواية كيف تستسقي الحكمة من تجارب الحياة فشخصية «زوربا» جعلتني أعيد النظر في كثير من الأشياء في الحياة.. في مرحلة متقدمة من حياتي وحال عودتي من أمريكا التقيت بـ«زوربا» آخر يتجاوز ما قرأته في الروايات.. رجل صافٍ كحنين مطر الطفولة أسفنجة بشرية يمتص كل شيء له علاقة بالحياة.. كل شيء يدركه يصبح جزءاً من نفسه ويجعل له معنىً.. تسلل إلى حياتي كما تتسلل رائحة الربيع من شقوق النوافذ حكيم عاقل لديه دوماً إجابة فطرية جاهزة صادقة تنم عن تفكير ومعانٍ وذات مغزى ومضمون.. ملامحه تكتسي بتعبير أب الأسرة الطيب وكان فعلاً رجلاً طيباً له قدرة جبارة على العطاء بوسعي تأليف عشرات الكتب بل مئة كتاب عنه، الدكتور «إحسان كاظم» رجل من مدينة الرسول ارتحل إلى ألمانيا وتزوج هناك وتخصص في أمراض النساء والولادة وعاد ليكون شاباً بروح عجوز روحه معجونة بماء الورد يملك طاقة إضافية من الحب ينثرها أينما حل يوزعها بسخاء على مرضاه وتلاميذه وزملائه شخص طيب يحمل في قلبه بساطة مزارع المدينة ويحافظ على قيمة وجوهر الحياة.. أحببته مع الأيام محبة ترتفع بالنفس إلى درجة الوجد فالدنيا لا تعطي من أمثاله الكثير.. لدي حكايات متنوعة عنه لم تكتب في زمن واحد لا أعلم من أين أبدأها اصطحبته يوماً للقاء الدكتور عبدالرحمن طه بخش رحمة الله عليه ليعمل معنا عندما تركت المستشفى الجامعي وليكون رئيساً لقسم النساء والولادة بالمستشفى رحب به الدكتور عبدالرحمن كان يستمع إليه ويمسح على لحيته البيضاء ويرسم ابتسامة ودودة على محياه والتي عرف بها هكذا كان «أبو طه» عندما ينصت إليك. في نهاية الحديث قال الدكتور إحسان للدكتور عبدالرحمن لدي شرط واحد إن قبلت به انضممت إليكم من الغد. قالها بأعصاب هادئة وشعور عميق بالرضى تبسم الدكتور عبدالرحمن وقال له ما هو الشرط «يا أبا حسني» قال أن تسمح لي أن أعالج الفقراء دون مقابل.. إن وجدت مريضة لا تستطيع دفع أتعابي يحق لي ألا استحصل أي مبلغ منها.. انفرجت أسارير الدكتور عبدالرحمن وتحولت في ثوانٍ من بسمة عذبة إلى ضحكة من القلب ثم توقف عن الضحك قائلاً «يا أبا حسني» لن تكون أكرم مني في فعل الخير إن وجدت فقيرة لا تستطيع دفع أتعابك فلا تأخذ منها ولن يقوم المستشفى بأخذ شيء ويشهد «أبو فراس» على ذلك ومد الدكتور عبدالرحمن يده لمصافحته كعربون لعلاقة طويلة لم تنتهِ إلا بوفاة الاثنين رحمة الله عليهما.. تذكرت كل ذلك بالأمس وكأنني أفتح جرحاً لا يزال طرياً على الرغم من السنوات فما زلت هشاً وضعيفاً أمام سنوات غياب «أبي حسني» الطويلة.. كنت أزور شقيقتي في «مشروع الأمير فواز» حيث تقيم ومررت بمنزله حيث كان يقيم هاجمت صورة «إحسان» مخيلتي.. خيل إلي أنني أسمع من نافذة «أبي حسني» العالية صوت عبدالوهاب ينطلق من أسر أسطوانة قديمة وهو يغني «مريت على بيت الحبايب وقفت لحظة هنية من اشتياقي» تصاعدت حرقة من معدتي لسعت حلقي ولساني وغصصت بتنهيدة مرّة.. طالعتني صور «لأبي حسني» صور للمشروع بأزقته القديمة وحاراته الأليفة.. الأماكن تبدو مشوشة ومبهمة يخيم السواد على المساحات الواسعة بين الفلل.. كنت أحدق طويلاً بأشجار حديقته لمحت شجرة غرسها وقد كبرت وتشابكت أغصانها اليابسة واتكأت على شجرة أخرى ضخمة واضح أن أحداً لم يعد يهتم بتلك الأشجار.. شعرت أن الكلمة تافهة أمام ما أشعر به في تلك اللحظة ففي قعر الروح أشياء كثيرة تعينني على تذكره تخطر ببالي صور حبيبة وأنا أفكر في استمرار هذه الحياة العنيدة.. الحياة الزاخرة هنا في هذه الحظيرة البشرية.. يبدو أنه عندما تفارقنا الوجوه التي نحبها يتحول السفر إليها مع الأيام إلى رحلة حنين تتحول فيها الوجوه إلى موانئ نفرح فقط بالرحيل إليها.. وحدها الذكريات تعيدنا إلى دفء افتقدناه.. أحياناً أتساءل لماذا يصعب علينا إقناع ذوي القلوب الرحيمة بالبقاء.. كيف سيصبح شكل هذه الأرض بعد عقود من الزمن إن أصر كل من هو طيب وجميل على الرحيل!!


Fouad5azab@gmail.com


للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ،636250 موبايلي، 738303 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة