مخاوف تطفو على السطح من استغلال منبر الجمعة، ومطالب بتكثيف الرقابة على الخطباء. (عكاظ)
مخاوف تطفو على السطح من استغلال منبر الجمعة، ومطالب بتكثيف الرقابة على الخطباء. (عكاظ)
همسة السنوسي
همسة السنوسي
-A +A
عيسى الشاماني، أروى المهنا (الرياض)، عبدالله الداني (جدة)
بدت مخاوف «قديمة» تطفو على السطح من تحويل بعض الخطباء منابر الجمعة إلى مكان لتصفية الحسابات والتهجم على الخصوم الفكريين، بعد أن ظل منبر الجمعة متسماً بـ«الوعظ» المركز، باعتباره أحد أهم مصادر التيسير على الناس وبث الأمل.

مخاوف «خطف المنبر» من مقصده الأساسي -بحسب مختصين- متجددة، وعاودت الظهور بعد تهجم خطيب جمعة في أحد الجوامع بمنطقة عسير على طالبات الطب والممرضات، وكذلك المبتعثات، واصفاً ذويهم بـ«عدم الغيرة»، إضافة إلى أوصاف تعتذر الصحيفة عن سردها كونها «غير لائقة».


وأثار مقطع الفيديو المتداول للخطبة استياء شريحة عريضة من السعوديين، حتى أن محافظين وخطباء مساجد استهجنوا ما ذهب إليه زميلهم، ووصف أحدهم الخطيب بـ«الجاهل».

ويرى شرعيون ومختصون تحدثت إليهم «عكاظ»، أن بعض منابر الجمعة مختطفة، بعد أن استخدمه خطباء منصةً للهجوم على الآخرين، إما بالتخوين أو التكفير أو حتى قذفهم بالجملة.

جدل «منبر الجمعة» عاود الظهور قبل أيام في مجالس السعوديين، على خلفية مقطع فيديو لداعية شهير، أطلق بعض التهم أثناء خطبة الجمعة ضد نساء سعوديات يطالبن بنزع ولاية الرجل منذ مدة على مواقع التواصل، معتبرين أن ما قاله الداعية يعتبر قذفا صريحا لكل النساء، بحسب وصفهم.

عاد ذات الخطيب الذي هاجم الفنان ناصر القصبي مجددا في الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي وأطلق في خطبة نارية عشرات العبارات المسيئة للسعوديات العاملات في المجال الطبي، وكذلك المبتعثات إلى خارج المملكة، متهما أهاليهن بعدم الغيرة وبأوصاف نابية.

وبحسب تسجيل مصور نشر أمس على الإنترنت فإن الخطيب المدعو يعتبر بحسب وصفه: «إن من أعظم تفسخ الغيرة من يذهب ببناته إلى كليات الصيدلة والطب، وأنت تعلم يقينا أنها غدا تجلس بجوار شاب أمرد (...) من الرجال».

وهاجم الخطيب الذي بدا عليه التوتر من برنامج الابتعاث الخارجي وإرسال الطالبات للدراسة في الجامعات العالمية: «ليس لك عذر أن تذهب ببنتك إلى الغرب وتجلس في الجامعة عن يمينها رجل أمريكي أحمر، وعن يسارها بريطاني أخضر، وإنني أدعو الله مخلصا يا من فتن بناتنا بالاختلاط أسأل الله أن يشل أركانه في هذه الساعة».

كلمات الخطيب المسيئة أثارت عددا من المواطنين على مواقع التواصل والذين أبدوا استعدادهم في مقاضاة الخطيب، ما دعا المحامي عبدالرحمن اللاحم لإعلان المرافعة المجانية للمتضررين ضد الخطيب المسيء، وانتشرت دعوة اللاحم في مواقع التواصل الاجتماعي حتى أعاد تدوير تغريدته المحملة بأرقام الاتصال بمكتبه أكثر 950 مغردا.

وقال أحد المواطنين: «كوني أخا لطبيبة مبتعثة فيحق لي رفع قضية قذف على هذا الخطيب وسأفعل بإذن الله وأشجع من هم مثلي على فعل ذلك ليعتبر».

ويرى أستاذ المناهج وطرق التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية علي الشعيبي في حديثه إلى «عكاظ»، أن منبر الجمعة هو جامعة الحي التي يستقي منها المجتمع تعاليم الإسلام السمحة، «إلا أنه ومع الأسف أصبحت هذه الجامعة تعمل بلا تخطيط، إضافة إلى أن الكثير من الخطباء يحب الإثارة ولفت الانتباه كي يجذب أكثر عدد من الحاضرين وأسرع طريق لشهرته هو أن يتحدث في أمور سياسية والتي هي غالبا مثار حديث المجالس، وفي نفس الوقت تجد الخطيب ينظر لهذه القضية من زاوية ضيقة جدا، هذا إن لم تكن خاطئة من أساسها».

واعتبر الشعيبي، أن بعض الخطباء يعتبر أن أممية الإسلام هي اعتقاد سائد بالشمولية وأن الحديث عن الوطن والوطنية تقسيم لهذا الشمول، «ولا شك أن ذاك هو ضعف إدراك وتصور وخلط بين مبدأ شمولية الأحكام وخصوصية المكان». وتساءل: لماذا لا تتحول خطب الجمعة إلى ما يشبه الدورات والبرامج التي تقام في مراكز التدريب والحوار؟ وهل هناك أدلة شرعية قاطعة بعدم جواز ذلك؟ فالأصل في الخطبة هي إيصال رسالة بأي طريقة كانت، ثم لماذا لا يعتلي المنبر أكثر من شخص في نفس الخطبة؟ فلو كنا نتحدث مثلا عن تأثير المخدرات على المجتمع تكون محاور الموضوع مقسمة بين عالم شرعي وصحي واجتماعي بحيث يكون الطرح مقسما بينهم على التساوي وبحدود معقولة جدا في الطرح والوقت.

وبين الشعيبي، أنه في حال إقرار أن خطبة الجمعة وظيفة رسمية سيكون الخطيب أكثر انضباطا وحرصا على التقيد بألفاظه وأفكاره، وسيعرف أنه محاسب عن كل زلل أو خطأ يقترفه أثناء الخطبة، فالخطيب الآن له مطلق الحرية في التحدث بما يشاء وعما يشاء وفق رؤيته ومزاجيته وقناعاته، وفي حال عرف أنه مراقب سيكون أكثر دقة، وفي حال جعلنا الخطبة وظيفة رسمية لا أرى مانعا كذلك من توحيد الخطب على مستوى الدولة وفق لجان عليا في الوزارة ومن شخصيات فكرية، وعلمية متعددة ومن ثم توزع على الخطباء بشكل أسبوعي.

الباحثة همسة السنوسي، تساءلت في حديثها إلى «عكاظ»: «لماذا لا تستغل الخطب للتوعية الثقافية من مختصين، كل في مجاله! ثم تختم في الخطبة الثانية بكلمات وعظ ديني هادئة تذكّر الناس ببعض ما قد أهملوه أو قصروا فيه من الفرائض الشرعية أو حتى ترقق قلوبهم لذكر الله»، لافتة إلى أن كل علم له أصوله، «فلا يعقل أن يتوسع خطيب مسجد دراسته العلوم الشرعية، في الحديث عن السياسة الداخلية أو الخارجية والعلاقات الدولية! أو في الطب وما شابه، ويبدي تنظيره فيها، فيشكِل على الناس رأيه الشخصي، ويظنونه فتوى، فيؤدي ذلك لخلط الأمور، أو لإشاعة الفتنة والتأليب على قرارات الدولة!» وتضيف: «الفتوى لها صوتها المحدد، ومن شروطها أساسا أن يكون مفتيها عالما متعمقا مجتهدا في الموضوع الذي يفتي فيه، فما يقوم به بعض الخطباء من إثارة الخلافات مذهبية مدفونة في باطن الكتب، لإضفاء نوع من الإثارة في خطبهم هو أمر غير مقبول، لما في ذلك من تهييج العداوات والنعرات بين العامة ويزداد قبح هذه الممارسة عندما ترتبط بزعم احتكار الحق المطلق، وتخطئة الآخر، وعدم رد الاختلاف لعالم الحق وحده عز وجل».

25 متضررا يوكلون محاميا لمقاضاة «الخطيب»

فيما انتشر مقطع فيديو لخطيب جمعة «موتور» في مسجد بإحدى محافظات عسير هاجم طالبات الطب والممرضات والمبتعثات، واصفاً ذويهن بـ«قلة الغيرة»، كشف المحامي عبدالرحمن اللاحم لـ«عكاظ» توكيل 25 متضررا له بمقاضاة «الموتور».

وأكد اللاحم استمراره في استقبال توكيلات المتضررين، وترتيب الأوراق القانونية، موضحاً أنه سيبدأ الأسبوع القادم بالخطوات العملية لمقاضاة «الخطيب الموتور».

وكان المحامي عبدالرحمن اللاحم أعلن من على حسابه في «تويتر» استعداده لتحريك دعوى قضائية ضد «الخطيب»، وقال إن على المتضررين التواصل معه، وأرفق أرقام التواصل بمكتبه «للبدء بمباشرة الدعوى احتساباً».

وسبق أن أدانت إحدى المحاكم الجزائية بالمنطقة الجنوبية الخطيب بالسب والتشهير بالفنان السعودي المعروف ناصر القصبي، وحكمت عليه بالسجن 45 يوماً، بعد أن أطلق علناً كلمتي «كافر» و«ديوث» عليه، كما أخذت المحكمة تعهداً مشدداً على المُدان بعدم العودة إلى هذا العمل مرةً أخرى.

الرضيمان للخطباء: من بُلي بالهوى فنظرته سوداوية لبلده

استاذ العقيدة ورئيس الأمن الفكري في جامعة حائل الدكتور أحمد الرضيمان، يؤكد أن منبر الجمعة هو أشرف المنابر، لكون نبينا عليه الصلاة والسلام ارتقاه، ونحن على هديه وسنته، ولكون خطبة الجمعة لها من الاحترام ما ليس لأي لقاء أو مؤتمر في الدنيا، مهما كان المتحدث، لأن المصلين يلزمون شرعا بالإنصات للخطبة وعدم الكلام والخطيب يخطب، ويتعبدون الله بهذا، وهذه حصراً لخطبة الجمعة فقط.

الرضيمان، يؤكد في حديثه إلى «عكاظ» أن هناك فئة قليلة يتحمسون ويوظفونها لتحليلات سياسية، أو تصفيات حزبية أو شخصية، مضيفاً «هذا أمر خطأ ويجب أن تعالجه وزارة الشؤون الإسلامية، لكنه ليس دأب الخطباء» ورأى أنه ليس من الحكمة أن ينشغل الخطيب في ما لا يعنيه ويعني المصلين من أمور الدول والجماعات، وإنما عليه أن ينفع المصلين الذين أمامه ويفقههم في الدين، ويعلمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويعظهم بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم لأن هذا تنفيذ لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وعاقبته مفيدة لهم. وأضاف: «أما من بُلي بالهوى وقدمه على الهدى، فلا تستغرب منه نظرته السوداوية لبلده، وإعجابه لما سواها، فالخطب التي تطلق التهم جزافا لا تصدر إلا من جاهل، والجاهل يجب أن يُعلم وليس له أن يصعد إلى المنبر وأماكن التوجيه، لأن تصدير الجهال يجعل الناس يَضلِون ويُضلون، ومعالجة ذلك تتم من خلال الجهة المعنية بهم وهي وزارة الشؤون الإسلامية»

مدير معهد الخطباء: ليس مكانا للصراعات وتصفية الحسابات

شدد مدير معهد الأئمة والخطباء في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد الدكتور فهد بن سليمان الخليفة على أهمية إبعاد منبر الجمعة عن الصراعات الفكرية والدعوة إلى التحزبات الفكرية والدينية والإقليمية. وقال في حديثه إلى «عكاظ» إن منبر الجمعة منبر شريف وهو منبر التعليم والحكمة وميدان التزود من الموعظة الحسنة، و«ليس من المناسب شرعا ولا عقلا أن تكون الخطبة ميدانا للصراعات الفكرية ولا مكانا لاستعراض المهارات اللغوية ولا الحصيلة العلمية، فضلا أن يكون مكانا لإبعاده عن المقصود الأسمى منه إلى بيانات سياسية، أو دعوة إلى تحزبات فكريه أو دينية أو إقليمية». ورأى الخليفة أنه من غير المقبول و«لا المعقول اتخاذ المنبر الشريف مكانا لتصفية حسابات شخصية أو ضرب اللحمة الوطنية، أو نشر الفرقة المقيتة بين المصلين والمستمعين بتعصب إلى لون أو بلد أو إقليم؛ لأن المنبر والخطبة ميدان علم وشرع ومكان وعظ وإرشاد وميدان تعليم الناس الخير في ما ينفعهم دينا ودنيا».

وأكد أن الواجب على الخطيب تفقيه الناس في دينهم وعقيدتهم، ودعوتهم للتوحيد وتحذيرهم من الشرك ووسائله وتعليمهم أحكام الدين الإسلامي الحنيف من صلاة وزكاة وحج وصوم وما يقيم به الإنسان دينه، كما يجب أن يكون المنبر مكانا لغرس القيم النبيلة والأخلاق الجميلة وربط الراعي بالرعية والتحذير من الأخلاق الرديئة والسيئة. وانتقد الخليفة ما سماه «تنحي بعض الخطباء بواجب المنبر الشرعي، ليكون منبرا شخصيا له يعبر به عن فكرته ويدعو إلى قيمه وقامته أو يبين توجها سياسيا أو حزبيا أو إقليميا، أو يحذر من أشخاص أو جهات حكومية أو أهلية ليس هذا محله ولا مكانه، ولم تشرع الخطبة الشريفة لهذا كله بل هي أسمى من ذلك كله».

الفيفي: أنشئ لـ«الوعظ» لا «الإساءة»

أوضح عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور محمد الفيفي أن منبر الجمعة أنشئ لوعظ الناس وليس للإساءة إليهم والاستهزاء بهم.

وقال الفيفي في حديثه إلى «عكاظ»: «كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التركيز في خطب الجمعة على قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر والأركان الستة، وبين الترغيب والترهيب، وهناك أمور ذكرها ابن القيم لو التزم بها الخطباء اليوم لكنا في خير عظيم».

وشدد على وجوب أن تكثف وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد جهودها في مراقبة الخطباء وعناوين خطبهم، وحثهم على الموضوعات التي لا حساسية فيها، ولا تستفز المجتمع، فالمطلوب تأليف المجتمع لا اتهامه وطعنه.

أكد القاضي في ديوان المظالم سابقا المحامي محمد بن سعود الجذلاني إمكانية إقامة دعوى على الخطيب عبر المحاكم الجزائية من كل شخص أساء إليه، إذ يكون رفع الدعوى فرديا لا جماعيا.

وبين الجذلاني في حديثه إلى «عكاظ» أن الخطيب أساء لأشخاص معينين ووصفهم بأوصاف غير لائقة كفقدان الغيرة ونقص الرجولة.