-A +A
طارق فدعق
جلست أكتب هذا المقال على أحد الكراسي المريحة جدا.. وكان أحد أسرع وأعلى الكراسي في العالم، فكان متجها إلى الرياض على سرعة ألف وستين كيلو مترا في الساعة، وعلى ارتفاع سبعة وثلاثين ألف قدم.. وكان أحد كراسي طائرة من طراز بوينج 777.. وتأملت في التباين الكبير في كراسي الطائرات فقد أصبحت كراسي درجة رجال الأعمال قمة في الراحة، وللأسف أن كراسي الدرجة السياحية أصبحت أصغر حجما وأكثر تزاحما.. وخلال رحلة عودتي من الرياض سأعود على الدرجة السياحية بمشيئة الله وأنا مستعد لها. وموضوع الكراسي بشكل عام يحتاج إلى وقفة تأمل. باستثناء كراسي الطائرات وبعض السيارات، لم تتغير الكراسي بشكل ملحوظ خلال الخمسين السنة الأخيرة لتواكب التغيرات الأخرى حول العالم. وقد وجدت بعض الطرائف المتعلقة بالموضوع واخترت لكم التالي: في مطلع الستينات عندما التزمت الولايات المتحدة ببرنامج «أبولو» للنزول على سطح القمر، كان تصميم مركبة الهبوط من أصعب ما نتخيل لأن التصميم كان لا بد أن يكون جديدا وإبداعيا. وكانت إحدى التحديات أن تكون مركبة الهبوط الشهيرة باسم «العنكبوت» صغيرة وخفيفة. وكان التصميم يقتضي أن تكون هناك عملية إعادة نظر مستمرة في مكونات المركبة لتكون رشيقة جدا و«خالية من الدهون». ومن الطرائف أن أحد الأنشطة الأساسية كانت حذف ما ليس له داع في كل مرحلة من التصميم. ومن القرارات الهندسية الجريئة التي أذهلت الجميع كانت إزالة كراسي رواد الفضاء بالكامل من المركبة أثناء مرحلة التصميم. وأصبحت أول مركبة طائرة بدون كراسي. كانت فلسفة الإزالة أن جاذبية القمر الضئيلة ومتطلبات القيادة في الهبوط والإقلاع لم يتطلبا وجود الكراسي.. والله يستر فقد تلغي شركات الطيران كراسي الدرجة السياحية بالكامل من منظور فلسفة «...لستم أحسن من رواد الفضاء الذين هبطوا على القمر».

ومن الطرائف الأخرى أن الكراسي هي أحد العناصر التي جمعت بعضا من أهم رواد الهندسة المعمارية حول العالم. العديد من «فطاحل» العمارة في القرن العشرين مثل السويسري «لوكوربوازييه»، والألماني «ميس فاندر روه»، والأمريكي «هرمن ميلر»، وغيرهم تركوا بصمة تصميمية في الكراسي التي صمموها والتي عكست شخصياتهم وفلسفتهم. بعضهم كان يرى أن البساطة هي الأساس، والبعض الآخر رأى أهمية هندسة نقل حمل الكرسي من المقعد إلى الأرض بطريقة إبداعية، والبعض صمموا الكراسي ليكون الجمال قبل الراحة. الشاهد أن هذه التصاميم أصبحت الآن منقولة بشكل أو آخر حول العالم ونراها حولنا في كل مكان اليوم، حتى في الكراسي التي لا نعطيها حقها من الاهتمام للعديد من الأسباب ربما لأنها بسيطة أو خفيفة. وعلى سيرة الكراسي الخفيفة ففضلا لاحظ أن أحد الأسماء التي تطلق على المفروشات هي «موبيليا» والأصل في هذه الكلمة يأتي من كلمة «موبايل» mobile أي متحرك. والسبب التاريخي لذلك هو أن المفروشات كانت تنقل من غرفة لأخرى حسب الاحتياج، ولذا فكانت إحدى الخصائص المرغوبة هي أن تكون خفيفة ليتم نقلها بسهولة. وللأسف أن هذه الخصائص غابت عن بعض الشركات المصنعة للمفروشات اليوم فنجد أن رشاقة المفروشات مفقودة.


قرر أبنائي أن يكافئوني على إنجازاتي، وإحدى تلك المكافآت هي كرسي جديد أخضر غاية في الجمال والراحة سأحصل عليه قريبا بمشيئة الله. والمشكلة أنه يشجع على «التنبلة» لأن تصميمه لمن يريد أن يقضي ساعات في الجلوس بداخل الكتب. وجمال الكراسي هي في تصميمها لأهداف محددة.. الغالب أننا بدأنا حياتنا كأطفال في الكراسي المتحركة. وهي من الروائع الهندسية نظرا لخفة وزنها وسهولة طيها، وقوتها. والغالب أيضا أن نسبة كبيرة منا ستقضي آخر أيامها على الكراسي المتحركة بشكل أو آخر ونسأل الله السلامة وحسن الختام.

أمنيـــــة:

بصراحة هناك ما هو أهم من هذا، فكراسي المسئولية تتطلب وقفة جادة ليحاسب كل من يمنح الثقة نفسه أمام الله، والمسئولين، والشعب. بعضهم ينسى أن المسئولية أكبر من المنصب، والكرسي. أتمنى أن يتذكر كل مسئول أن الكراسي دوارة وأنها تمثل فرصة عظيمة وقصيرة الأمد لخدمة البشر، ولترك البصمة المميزة. والله يشهد على كل كبيرة وصغيرة في ما نعمل وما ننسى، وما نهمل، وهو من وراء القصد.