-A +A
علي العميم
يستوجب حديث عدنان إبراهيم في حلقة (إلى أين أخذتنا الصحوة؟)، عن صلة الإنجليز بـ«الإخوان المسلمون»، وقفات لتأكيد ضعف معلوماته وركاكة آلية الفهم والنظر لديه، رغم نفخة الادعاء في كلامه، لكنني ملزم بوقفة واحدة، رغبة في الاختصار. هذه الوقفة ستكون عند جملة اعتراضية قالها في أثناء حديثه عن تلك الصلة، وهي قوله: [هناك] سؤال يتردد كثيراً، [وهو أن] جماعة «الإخوان المسلمون» – ونرجو أن نسمع منهم جواباً – لم تنشر تاريخها الرسمي إلى الآن. [غير معقول أن] حركة بهذا الحجم وبهذا التأثير لا تنشر تاريخها الرسمي. والتاريخ ليس آراء ووجهات نظر، التاريخ – كما يقول الفرنسيون – وثيقة [والتاريخ] – بالدرجة الأولى – وثيقة.

على عكس ما يقول، فالإخوان كتبوا تاريخهم منذ وقت مبكر. كتبوه ابتداء في حياة البنا في عقد الأربعينات، فسكرتيره الشخصي أحمد أنس الحجاجي ألف كتاباً عنه اسمه (روح وريحان) وأنور الجندي نافسه في كتاب آخر عنوانه (قائد الدعوة: حياة رجل رجل وتاريخ مدرسة). وللأخير كتاب أصدره في ذلك العقد رداً على كتاب شيوعي ناقد لـ«الإخوان المسلمون»، أسماه (الإخوان في ميزان الحق). هذا الكتاب لنا أن نعده – أيضاً - من بدايات التأريخ لـ«الإخوان المسلمون». وكتاب حسن البنا (مذكرات الدعوة والداعية) الذي نشر في منتصف الستينات في كتاب، وكان سبق له أن نشر بعضاً منه مسلسلاً في صحيفة (الإخوان المسلمون) يصنف على أنه (وثيقة) في كتابة (تاريخ «الإخوان المسلمون»). ومن الكتب التي تضمنت تأريخاً لـ«الإخوان المسلمون» والتي صدرت قديماً، كتاب محمد شوقي زكي (الإخوان المسلمون والمجتمع المصري). وفي سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، انهالت كتب ألفها «الإخوان المسلمون» عن تاريخ جماعتهم، ومنها ما أرخ للحركة ككل، ومنها ما تعرض جزئياً لهذا التاريخ ولوقائع بعينها، ومنها ما أفرد للنظام الخاص في جماعة «الإخوان المسلمون»، ومنها ما تناول سير أعلام في الجماعة، ومنها ما هو شهادات وذكريات ومذكرات. وهذه الأعمال التي أتينا على ذكرها تعتبر تأريخاً (رسمياً) لـ«الإخوان المسلمون».


وفي ظني أن عدنان إبراهيم لا يفهم مدلول استعمال الوثيقة في كتابة التاريخ جيداً، فمن ظاهر ما قاله أنه يحصر مدلولها في التقارير والخطابات الخاصة والسرية. كما أنه لا يعلم بأن الوثيقة يمكن أن تكيف وتبتسر ويتم التلاعب بها من أجل كتابة تاريخ مموه وزائف.

مشكلة كتابة «الإخوان المسلمون» لتاريخهم، وتاريخ الحكومة السعودية في العهد الملكي وتاريخ عهد عبدالناصر، أنه مملوء بالمغالطات والأكاذيب. وأنهم يزورون الوثائق. فعلى سبيل المثال ثمة وثيقة زورها إخوان مسلمون في الخارج في ستينات القرن الماضي وأعادوا تزويرها في ثمانيناته مع تغيير موضوعها! والذين زروا هذه الوثيقة اشتركوا في تزوير وثيقة أخرى (من هؤلاء يوسف ندا وتوفيق الشاوي)، وهي عبارة عن كتاب اسمه (أقسمت أن أروي) منسوب لاسم مسيحي عربي لا وجود له، هو روكس معكرون. وقد كان لي شرف الكشف عن فضيحة هذا الكتاب.

ومن المشكلات أيضاً، ما أسمي بالمنطق الثأري في الكتابة عن جمال عبدالناصر وعن التجربة الناصرية، وهي المشكلة التي لم يفلح عدنان في تحديد طبيعتها ولم يحسن الحديث عن الآثار السيئة التي نجمت عنها. إن عبدالناصر وتجربته السياسية والاقتصادية والأيديولوجية تعرضا لنقود من اتجاهات ومدارس مختلفة، وهذا النقد في مجمله نقد قوي ومعتبر. و«الإخوان المسلمون» شنوا عليه وعلى تجربته حملة ضخمة. ومع هذا فإن كل ما قالوه في حملتهم هذه، لا يعد، نقداً ذا قيمة. والقارئ الذي يعتمد على أدبياتهم في معرفة عبدالناصر والناصرية يتوهم أنه محيط بشخصية الرجل وبطبيعة التجربة، وهو في الحقيقة غير ملم، ناهيك عن أن يكون محيطاً بهما، بسبب الدعائية والغش في المعلومة والسطحية في التحليل والضعف العلمي والثقافي في المصدر الذي اعتمد عليه.

يقول عدنان إبراهيم بتفاخر، في معرض حديثه عن تحرره من سجن فكر الصحوة: «قرأت في طفولتي لمصطفى محمود ونهيت عن هذا... وقرأت لمحمود جواد مغنية – وهو عالم ومفكر وشبه فيلسوف – [ومحمد جواد مغنية] شيعي لبناني. كنت أقرأ لزكي نجيب محمود».

وما قاله هنا، يدعو للعجب، فمصطفى محمود كان فكر الصحوة الإسلامية يروج لكتبه الإيمانية والإسلامية، ويعتمد على النهل من كتبه – سواء أشار إليها أم عمّى على مصدره - في القضايا التي تتعلق بما يسمى الإعجاز العلمي والسجال ضد الإلحاد وضد الماركسية وضد عبدالناصر.

ومحمود جواد مغنية في بعض كتبه التي تتطرق إلى الشأن المعاصر، يعد من الكتاب الإسلاميين، وكتبه تلك تدخل في نطاق ما يسمى (الكتاب الإسلامي المعاصر)، والصحويون، وبخاصة في دول المشرق العربي يقرأونها.

زكي نجيب محمود هو الاسم الوحيد الذي يعادونه – وبالتالي – لا يقرأون له، بسبب تشنيع المفكر الإسلامي محمد البهي بكتابه (خرافة الميتافيزيقيا)، ولأنه كان داعية لإحدى المدارس الفلسفية الغربية، وهي الوضعية المنطقية. ولسبب عام، وهو أنه علماني المنهج والتفكير.

عدنان إبراهيم – كما حكى عن نفسه في بعض خطبه – مفتون ومأسور بمصطفى محمود منذ طفولته إلى يومنا هذا. وهو متماهٍ به وينظر إلى نفسه على أنه هو وريثه أو هو مصطفى محمود الجديد. ومع هذا الشغف والولع به إلا أن حديثه عنه، ينم أنه يعرفه من خلال عموميات صحوية، مع إضافة شيء من التوابل الخرافية على شخصية مصطفى محمود ومقدرته الفكرية، وهذه الإضافة نعدها إضافة غير صحوية، فمنبعها عنده أنه مشدود للإيمان بالخرافة ومنغمس في التفكير الخرافي إلى أقصى حد.

يقول عن مصطفى محمود «لا يتكلم الفصحى دائماً. هو لا يريد هذا. معظم كلامه مشوب بالعامية أيها الإخوان. هو – حقيقة – لا يحسن الفصحى. أعرف هذا لا يحسن حتى تلاوة الآيات، يغلط فيها كثيراً. لكنه مثقف كبير جداً دونه أكثر المثقفين العرب. يقول بعض الناس [إنه] لا يعرف التلاوة ويخطئ في آيات في جزء عمّ. نعم يخطئ. ولا يعرف كيف يرفع وكيف ينصب ويقرأ غلط. لكنه – يا أخي – مثقف رهيب و[صاحب] فكر عميق جداً. [إنه] شيء غير عادي. [وهو] لم يفرغ لهذه الأشياء [و] لو أراد أن يفرغ لها لتعلمها في سنة أو سنتين. فحفظ القرآن والكتب والسنة وحفظ النحو والصرف. وبدأ يتشدق كبعض المتشدقين [الذين لا يحملون] لا فكراً ولا عمقاً ولا أي شيء أصلاً».

«ائتوني بمثقف في مصر الآن [هو] بحجم مصطفى محمود [في] فهمه للعلم والفلسفة والتاريخ والإيمان والمجتمع».

«قبل أسابيع كنت أقرأ لصحافي مغمور وسخيف يتحدث عن الدعاة الجدد... فقال: لم يكن عند مصطفى محمود علم. بأي طريقة – يا أهبل - تحكي عن الناس. [هو يريد] واحد بلحية نصف متر، ويحفظ أبيات شعر وأحاديث».

إن مصطفى محمود لدى أي طلعة في القراءة وجاد في البحث والثقافة، مرحلة ثقافية تناسب سن المراهقة، ثم بعد أن يتبحر في القراءة أكثر ويتوسع في الاطلاع على كتابات محترفين في الشؤون التي يتناولها مصطفى محمود، يجد نفسه – تلقائياً - منصرفاً عنه. مصطفى كاتب صحفي بارع في أسلوب كتابته. وقيمته تنحصر في أنه قاص موهوب. ولا يعرف تاريخ مصطفى محمود جيداً إلا من هو مطلع على تاريخ القصة القصيرة والرواية والقاصين والروائيين وعلى تاريخ الصحافة والصحفيين وتاريخ الثقافة في مصر منذ منتصف القرن الماضي. وهذه التواريخ يتساوى عدنان إبراهيم مع السلفيين – الذين كان يعّرض ويستهزئ بهم في كلامه السابق – في الجهل بها.

ومصطفى محمود يغلب على نطقه اللسان العامي، ولم يكن بمقدوره تجاوز هذه العقبة الكأداء، فهو لا يستطيع قراءة سطر واحد مما يكتبه هو قراءة عربية صحيحة، رغم حلاوة أسلوبه ورشاقة عبارته. لهذا كان يحاضر بالعامية من ورقة كتب نقاطها الأساسية باللغة العربية الفصحى.

ومن مجمل كلام عدنان إبراهيم عن مصطفى محمود تصويره أن معارضيه هم السلفيون وأصحاب الفكر الديني المتطرف والأزهر وحسب، وهذا التصوير يجمع إلى الجهل الغرضية.

فعند تحوله إلى الإسلام نشر سلسلة مقالات في مجلة (صباح الخير) تحت عنوان (محاولة لتفسير عصري للقرآن)، عام 1970، فرد عليه السوداني محمود محمد طه صاحب الفكرة الجمهورية بمقال نشره بمجلة (الأضواء) السودانية، وكان قد سبق له أن رد على كتابه الإلحادي (الله والإنسان)، بمقال نشره في جريدة (أنباء السودان)، عام 1959، وعندما نشر مصطفى محمود تلك المقالات في كتاب عنوانه (محاولة لفهم عصري للقرآن)، عن دار الشروق، عام 1970، أصدر محمود محمد طه كتاباً في العام نفسه عنوانه (القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري) في الرد عليه.

عائشة عبدالرحمن، بنت الشاطئ، كتبت سلسلة مقالات في جريدة (الأهرام) فندت فيها تفسير مصطفى محمود العصري للقرآن، وجمعت هذه السلسلة في كتاب صدر بعنوان (القرآن والتفسير العصري للقرآن) عن سلسلة (اقرأ) عام 1970، وما كتبته بنت الشاطئ هو من أشهر الردود ومن أقواها عليه. ولقد ظل يئن ويتشكى من ردها عليه سنين طويلة. وكان تحت وطأة نقد سلسلة مقالاتها في (الأهرام) غير العنوان من (محاولة لتفسير...) إلى (محاولة لفهم...).

ومن الردود العلمية القوية والمعتبرة، كتيب أصدره ماركسي مصري اسمه عاطف أحمد (طبيب نفسي) عن دار الطليعة ببيروت، تحت عنوان (نقد الفهم العصري للقرآن) عام 1972.

وحتى «الإخوان المسلمون» الذين استغلوا تجربة تحوله في سبعينات القرن الماضي في الترويج الدعائي لفكرهم، واستفادوا مما كتبه حول الإعجاز العلمي في القرآن ومن برنامجه (العلم والإيمان) ومن كتاباته ضد الإلحاد والماركسية والناصرية كانوا غير متفقين عليه، وكان موقفهم منه موقفا منقسما. فمنهم من نقد شطط تفسيره العلمي القرآن، كما في كتاب أحد قدامى الإخوان، عبدالمتعال الجبري (شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم)، الصادر في عام 1976.

يتحدث الكاتب الإسلامي الإخواني عبدالحليم عويس عن هذه القضية في كتابه (العقل المسلم في مرحلة الصراع الفكري: متابعة نقدية) الصادر في عام 1981، فيقول: «لكن ذلك لا يمنع من القول إن مصطفى محمود، قد خيب أمل كثيرين فيه، ومفهم كاتب هذه السطور الذي وقف معه في مرحلته الأولى، كما وقف مع جلال كشك، مادحاً ومعجباً ومحاوراً. وكلا الرجلين قد اختط لنفسه طريقاً لا نقرهم عليه. فافترقنا على الطريق الذي كنا قد التقينا عليه. وإن بقي الاحترام الشخصي، متبادلاً. أجل: إننا نحترمهم وإن خالفناهم وفارقناهم، وإننا لنأمل أن يعودوا إلى الالتزام الإسلامي الصحيح». وعندما أعاد طبع كتابه بعد ما يقرب من العقدين أسقط ما كتبه عن مصطفى محمود من الكتاب! الإسلاميون يأخذون عليه جنوحه في التصوف والذين كانوا يحاولون استيعابه منهم، كانوا يأملون منه أن يلتزم بخطهم السياسي والفكري، وأن يصدر عن إسلام كإسلامهم. لكنه بقي مستقلاً وكان يرفض التزمت والانفلات والتطرف الديني ونقد الإسلام السياسي. ولأنه كان ساداتيا اصطف مع السادات ضدهم. وهذا ما أغضبهم منه أيضاً.

وموقفه المتحرر من الفنون لم يكن يغضب السلفيين وحسب – كما يصور الأمر عدنان إبراهيم – بل هو يغضب بقية الإسلاميين من «الإخوان المسلمون» وسواهم من التيارات الدينية.

والأزهر الذي سبه عدنان إبراهيم، واتهم علماءه بالكهنوتية والجهل من أجل مصطفى محمود، كذلك موقفه منه موقف منقسم، تبعاً لموقف علمائه من قضية الإعجاز العلمي في القرآن. وحتى الذين كانوا يعارضون تفسيراته للقرآن، كان فيهم من يعتبر عودته إلى حظيرة الإيمان كسباً يستحق التأييد والإعجاب. وللقارئ أن يستطلع هذا الموقف في تعليق عبدالودود شلبي – أحد علماء الأزهر– على الطبعة الأولى من كتابه (كيف أرى الله) الصادرة في عام 1974.

لقد أجاد فؤاد زكريا في تشخيص حالة مصطفى محمود الفكرية وبرع في تشخيص حالة المعجبين به في مقال نشره في مجلة (روز اليوسف) في شهر سبتمبر سنة 1976. تحت عنوان (مصطفى محمود بين الماركسية والإسلام). وكان المقال مراجعة نقدية لكتاب مصطفى محمود (الماركسية والإسلام). وأعاد نشرها في خاتمة كتابه (الصحوة الإسلامية في ميزان العقل).

يقول فؤاد زكريا في مستهل مراجعته تلك: «من المؤكد أن الدكتور مصطفى محمود إنسان سعيد الحظ، فهو بوصفه كاتباً ومفكراً، قد اكتسب شعبية واسعة أتاحت لكتبه أن تكون أوسع الكتب انتشاراً على مستوى العالم العربي كله. وهو في شعبيته هذه يتخذ أمام الجماهير الواسعة مظهر المفسر الديني، والحكيم والفيلسوف، والعالم المطلع، صحيح أنه في مجال التفسير لا يرضي معظم رجال الدين المتخصصين، سواء منهم أصحاب وجهة النظر المحافظة أو المتحررة، وأنه في مجال الفلسفة هاوٍ يسهل على أي مشتغل في هذا الميدان أن يكتشف نقص معلوماته وضعف منطقه، وأنه في ميدان العلم قد توقف على ما يبدو عند السنوات الأولى في فترة دراسته الطبية، مضافاً إليها قراءات سريعة لكتب مفرطة في التبسيط. أي أنه بالاختصار لا يرضي المتخصصين في أي ميدان من هذه الميادين الثلاثة. ولكن فيمَ يهم رضا المتخصصين إذا كانت الجماهير الواسعة قد أصدرت حكمها لصالحه، وأصبحت تتخذ منه مصدرها الأوثق، وربما الأوحد، في فهم حقائق الدين والفلسفة والعلم؟

إن القارئ المتدين ينبهر حين يقرأ لدى الدكتور مصطفى محمود تفسيراً دينياً عقلياً بعبارات فلسفية ومصطلحات علمية. والقارئ الباحث عن حكمة الحياة وفلسفتها ينبهر حين تقدم إليه الفلسفة في إطار ديني وعلمي. والقارئ الذي يستهدف حقائق العلم ينبهر حين تعرض عليه هذه الحقائق مرصعة بحكم فلسفية مؤيدة بنصوص دينية وهكذا يقدم الدكتور مصطفى محمود إلى قرائه (توليفة) فكرية ترضي جميع الأذواق».

إنه عن حق – كما سماه فؤاد زكريا ساخراً - عطّارة الفكر.

*باحث كاتب سعودي