-A +A
أحلام محمد علاقي
رأيته بين الزحام والناس تتصادم ببعضها أمام مدخل السوبر ماركت المكتظ بالأطفال والنساء والرجال، كل منهم يبحث عن العربة الأفضل والأكثر سلاسة، بعضهم يجر عربة ليجربها ثم يدفع بها بعيداً بملل، وبعضهم يصرخ في أطفاله ليهدأوا، وأطفال بدورهم يتباكون رافضين المقعد الضيق في عربة السوبر ماركت التي تحشرهم فيها أمهاتهم لتقييد حركاتهم، ونساء متعجلات حاملات قوائم مشتريات بأيديهن، وأشخاص في حلل مهملة مجعدة يسحبون خلفهم أطفالا في أردية نوم مهترئة وكأن التابع والمتبوع قد خرجوا ركضاً لطارئ متعجلين، وعمال يدفعون بنشاط وسرعة عربات ممتلئة لآخرها، وآخرون راحلون يحملون مشترياتهم، فذلك يحمل كيسا من البرتقال وآخر زجاجة حليب وثالث يوازن بكل عناية طبقا من البيض بخوف وحذر. وعائلة أخرى واقفة في الركن لتوبيخ طفل استدار ليعطيهم ظهره مبدياً عدم الاكتراث بينما أخذ ينتحب في ركنه غاضباً.

أما هو فقد ظل جالسا لا يتحرك. كان العالم حوله يثور بالأحداث والشخوص والأصوات، أما هو، فقبع في ركنه هادئا مستنداً على عصا متهالكة، وبصعوبة رأيته ينحني ليقعد على جزء مقطوع من كرتون قديم. لم يترك الغبار جزءا من ثوبه إلا واختبأ فيه، ولم يترك الإهمال شعرة من ذقنه إلا وسكنها. أما قدماه فيبدو أنهما لم تصافحا النعل منذ سنوات. فكل شق في كعب قدمه يدفن عصوراً من الحياة الخشنة، التي عششت في جسده، ابتداء من جبينه المتجعد كقشرة حبة عنب قديمة متجعدة قاتمة، إلى كعب قدمه المليء بتضاريس الأرض التي واكبها في سنواته التي تقترب من الثمانين.


رأيته ينظر للأفق حيث شاطئ البحر الذي تنتشر رائحته في المكان، تلك الرائحة المنعشة حينا والمليئة بالرطوبة والحياة البحرية أحياناً. ولكن البحر لم يعد جزءاً من خريطة المكان منذ زمن بعيد، فقد حجبته العمارات الشاهقة الجديدة التي بنيت لتستضيف بوتيكات بواجهات زجاجية ضخمة لامعة وأسماء غربية تجبر القارئ على تطويع لسانه بصعوبة للنطق بها، تبيع حقائب مترفة مصقولة، وأحذية فاخرة من جلود باهظة، وساعات زينت بأحجار مضيئة وبأسعار لا تعرض لأعين العامة.

لم تصل عيناه لمدى البحر، فقد كان ينظر لما هو أقرب من ذلك، لسرب حمام حط على الأرض التي أمامه ليلتقط بعض كسرات من الخبز الجاف. رأيته يمسح رأسه الأحسر ذا الشعر الرمادي الخفيف بيده التي تبدو كهيكل عظمي مغطى بورق بردي شفاف وقاتم، وبالتدريج علت وجهه ابتسامة بطيئة حينما سمع هديل الحمام وكأنه يستعيد ذكريات قديمة. مرت أمامه امرأة شابة ترتدي عباءة حريرية حالكة السواد مطرزة باللون الأحمر القاني وكانت تعبث في هاتفها الجوال وهي تمشي، وفي ذراعيها تتراقص أساور كثيرة أخذت تلمع في الشمس بسطوع مبهر بدرجات مختلفة من الذهب والفضة، أساور أصدرت أصواتاً مرحة راقصة أخرجته من عالمه لينظر إليها نظرة عابرة وهي تمر مسرعة.

لم تلتفت إليه البتة. تجاهلته تماما كما تجاهله الطفل الذي رمى ورقة الآيسكريم بجانبه وكأنه شبح لا يُرى، وكما تجاهله الرجل الذي يدفع عربتين من المشتريات تتراقصان يمنة ويسرة بعناد يرفض السيطرة، وكما تجاهلته المرأة الحامل التي تتنفس بصعوبة بالغة كما يظهر من وجهها المحمر وصدرها الذي يعلو ويهبط باستمرار، وكما تجاهله شرطي المرور الذي تصبب عرقاً وهو يحاول السيطرة على ازدحام السيارات أمام المكان. تجاهله الحمام وتجاهلته القطة التي قفزت على حاوية المهملات لتبحث عما يمدها بالحياة. تجاهلته الريح التي كانت تعصف في الساحة المفتوحة بعيداً عن السوبر ماركت ناثرة رذاذ مطر خفيف منبئ بما هو أعظم، وتجاهلته أنا لأهرع لأرفف السوبر ماركت وألتقط بعض الخبز لعشائي.

تجاهله الجميع ورأيت أنا ذاك المشهد، بل كنت أحد الممثلين في هذه المسرحية التراجيدية. لم تكتمل الصورة أمامي ولم أترجم المشهد أو أذكره إلا مساء، حينما قطعت بيدي شريحة الخبز المحمصة ذات الرائحة الشهية لأسد جوعي بعد يوم مليء بالعمل والوجوه والأصوات.