-A +A
عبداللطيف الضويحي
لو أن ما تم إنفاقه على التعليم خلال العقود الماضية من جهد ووقت ومال، تم إنفاقه في مجال التدريب والتأهيل الفني والمهني وفي مجال النهوض بالإدارة، لكنا الآن دولة صناعية استثنائية في المنطقة، ولَكُنَّا دولة نموذجية بالتنمية وتعدد مصادر الدخل وتوفر فرص العمل ولاستوعبت أسواقنا كل المؤهلين الراغبين بالعمل ليس من المواطنين فحسب بل من العقول العربية والأيدي العربية وغيرها ربما.

قبل أسابيع كتبت مقالة بعنوان «لتقبل الجامعات الخريجين كي تسقط جدران الوظيفة» على خلفية بعض الآراء التي تطالب الجامعات بالحد من قبول خريجي المدارس الثانوية، لإرغام هؤلاء الخريجين على التوجه للدراسة في التعليم الفني والمهني.


اليوم أعود لهذا الموضوع من زاوية أخرى، بعد أن أثار فضولي ما كتبه الزميل الأستاذ غسان بادكوك حول هذا الموضوع في مقالته في جريدة «عكاظ» حول هذا الموضوع وما تطرق له حول فريق النظرية وفريق السوق.

في الحقيقة لا تتناقض نظرية السوق مع النظرية التعليمية، فالمخرجات مطلوبة بكلتا الحالتين، وليس هناك بلد أو مجتمع يمكنه أن يستغني عن خريجي الجامعات أو خريجي المعاهد والمدارس المهنية والفنية والتقنية. ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما في أي بلد، ناهيك عن أن البلد الذي نتحدث عنه هو بلد يملك الموارد البشرية والموارد الطبيعية ويملك مقومات النهوض الصناعي والتنموي، ويملك الفرص كافة للدخول إلى العالم الصناعي.

لكننا ولأسباب ثقافية محلية، تعودنا دائما أن نبحث دائما أن نفكر داخل الصندوق. ولم نألف التفكير خارج الصندوق الذي وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا الأولين.

التعليم بجناحيه النظري والتعليم للسوق، يعاني من مشكلات مشتركة، تدني الجودة وتدني الجاذبية للطلبة، ناهيك عن المشكلة الأعم والأهم وهي ثقافة المجتمع غير الصديقة للتعليم والتعلم.

يجب أن نعترف بأن ثقافة مجتمعنا ليست صديقة للتعليم، فهناك حاجز حضاري يقف سداً عازلاً بين التعليم والإنسان في مجتمعنا. لا أعرف كم من الطلبة سيذهب للمدرسة، لو لم يُدفع دفعا إلى المدرسة خاصة في بعض مراحل التعليم، ولا يزال الغش في الامتحانات سيد الموقف، ولا يزال المدرس الخصوصي يشغل مساحات واسعة من عمل المدرسة، ولا يزال الأهالي يطاردون أبناءهم لحل الواجبات. كل هذه تعني الفجوة الكبيرة في ثقافة المجتمع بين الإنسان والتعليم. وعندما نتحدث عن التعليم المهني والتدريب الفني تكون المشكلة أكبر وأشد مرارة، لأن ثقافة المهنة ليست موجودة في ثقافة المجتمع ولا في أنظمة العمل السائدة في القطاعين العام والتجاري، ناهيك عن غياب شبه تام لثقافة النقابات المهنية والنقابات العمالية، كل هذا يعني الفجوة الثقافية والحضارية في ثقافة المجتمع بين الإنسان والتعليم.

هناك حلقة مفقودة بين مؤسسة الأسرة ومؤسسة التعليم، هذه الحلقة هي «ثقافة المجتمع» حول التعليم بأنواعه وبمدارسه. لم تنجح الأسرة ولم تنجح المؤسسة التعليمية باختراق هذه الثقافة وترويضها حضاريا لبناء صداقة بين الإنسان والتعليم.

لكي يتم هذه الجسور، أرى أن يتم إلغاء المواد الدراسية والمعمول بها حاليا في كافة المراحل، ليصار إلى أربعة مسارات، يدرسها جميع الطلبة والطالبات منذ السنة الأولى وحتى نهاية المرحلة الثانوية. 1 ـ مسار معرفي، 2 ـ مسار مهني، 3 ـ مسار مالي، 4 ـ مسار أخلاقي.

المسارات كما هو واضح من عناوينها تعمل على زرع وترسيخ ثقافة المعرفة والمهنة حسب كل مسار. فكل طالب وطالبة يجب أن يتنقل يوميا بين الورش الأربع حتى يبلغ آخر سنة في المرحلة الثانوية. عندئذ يمكن أن يختار الطالب ويفاضل بوعي وقناعة وحرفية بين التعليم للسوق والتعليم النظري. وبذلك نضمن أننا اخترقنا ثقافة المجتمع المناوئة للتعليم، أو غير الصديقة للتعليم. ومن خلال وعي الطالب مبكرا بما هو متوفر، ويكون الطالب قادرا على اكتشاف قدراته خلال سنوات التعليم العام، فضلا عن تهيئة المجتمع للحاضر والمستقبل.

كفى هدرا للطاقات البشرية والمادية. فالتعليم ليس وزارة التعليم. والتعليم هو عصب تنمية فلماذا يبقى التعليم تحت عباءة وزارة غارقة بمشكلاتها وبيروقراطيتها، التي تحول دون أن تتبنى الوزارة طرحا كهذا أو أي طرح يستجيب للمرحلة، لكن مستقبل الوطن أهم بكثير من أي إجراءات وأنظمة محنطة.

إن مستقبل الوطن أهم من الأنظمة البيروقراطية والإجراءات المحنطة، ولذلك قد يكون الخروج من عباءة الوزارة عن طريق دمجها بوزارات أخرى أمرا حيويا للمرحلة الحالية والمستقبلية. خاصة أن المعرفة تجاوزت التعليم، والطالب تجاوز المعلم، والوعي سبق النمطية؟. لكن أي محاولة لإصلاح هذه الوزارة ومؤسساتها أو انتظار إستراتيجيتها وكوادرها لهذه المرحلة هو هدر للطاقات البشرية والمادية ومضيعة للوقت.