-A +A
عزيزة المانع
هل عاد زمن بناء الأسوار وتطويق المدن بالجدران العالية؟

يخبرنا التاريخ أن تسوير المدن كان عادة جارية لدى الناس منذ القديم، وأن هناك مدنا كثيرة اشتهرت بأسوارها كسور طروادة المذكور في الأسطورة المشهورة، وسور الصين العظيم، وأسوار بابل في العراق وحائط المبكى في القدس القديمة، وغيرها.


في تلك الأزمنة كان الحافز الأول لبناء الأسوار، حماية المدينة من توغل جيوش الغزاة وأهلها في غفلة، فكانت الأسوار تقام لتكون سدا مانعا وحصنا حصينا للمدينة، فمتى حل الليل بادر أهلها إلى إغلاق أبواب سورها ليخلدوا إلى النوم في اطمئنان، من أن يغدر بهم عدو وهم نائمون. كانت المدن صغيرة، وأهلها معدودون مقارنة بما هي عليه المدن في هذا الزمان، كانت أشبه بالبيت الذي متى حل الظلام بادر سكانه إلى إغلاق بابه حذرا من اللصوص.

ثم ما لبث أن تغير الحال، فمع ازدهار الحضارات، ونمو المدن واتساعها، وظهور الممالك والدول التي تضم داخلها العديد من المدن، أخذ الناس شيئا فشيئا يتخلون عن أسوار مدنهم، خاصة بعد أن تبين لهم أن الغزاة لم يعودوا يهاجمونها وأقدامهم فوق الأرض، وإنما صاروا يسقطون فوق رأسها من السماء، فأيقنت الدول أن لا جدوى من إنفاق المال على بناء أسوار لا تستطيع حمايتها، فسقطت الأسوار من عليائها وأخذت في التلاشي شيئا فشيئا.

في أيامنا هذه، بدأت فكرة بناء الأسوار تبعث من مرقدها من جديد، ليس من أجل الحماية من غزو الجيوش العسكرية، وانما حماية من غزو جيوش أخرى من نوع آخر، لا يقل خطرها عن خطر الجيوش العسكرية، فبعض الدول باتت تعاني من ممتهني الإرهاب الذين يخترقون حدودها لينفذوا جرائمهم البشعة داخلها، ومن تسلل المهربين الذين يجلبون إليها على ظهورهم معاول هدم للاقتصاد والأخلاق والأمن، يهربون الأسلحة والمخدرات وتجارة الجنس وغيرها، كما يعاني بعضها من تدفق اللاجئين السياسيين الهاربين من مناطق تتقد فيها الاضطرابات وتنتشر فيها إبادة البشر، ومن تدفق المهاجرين الذين ضاقت بهم سبل العيش فامتطوا الهجرة عن بلادهم بحثا عن مواطن الرزق، وغير ذلك من أشكال الغزو المدني، التي باتت بعض الدول تراه مضرا لها أمنيا واقتصاديا، فكان أن عاد بها الزمن إلى تتبع خطى الأجداد في بناء أسوار الحماية.

فهل سيكون لتطويق المدن بأسوار عالية جدوى ملموسة في هذا العصر، كما كان ذلك من قبل؟

بناء الأسوار يكلف أموالا كثيرة بما قد ينهك ميزانية الدول، وما لم يكن حقا ذا جدوى فإنه يصبح عبئا اقتصاديا على الدولة، ليس هذا فحسب، وإنما أيضا هو يضع الدولة داخل سجن انفرادي يعزلها عن العالم فتصير كما لو أنها تبني السور لتسجن ذاتها.