-A +A
هاني الظاهري
قبل سنوات قليلة كنا نتحدث بقلق عن التحولات الكبرى في الأنماط الاستهلاكية تجاه المحتوى الثقافي والإعلامي نتيجة القفزات التقنية المتوالية وجنوح المزاج العام نحو المحتوى الإلكتروني ما ساهم في ارتفاع نسبة قراء المواقع الإلكترونية للصحف بمئات الأضعاف عن نسبة مشتري نسخها الورقية، وهذا ما حدث أيضا لإصدارات دور النشر التي لم يعد بإمكانها السيطرة على المحتوى الذي تقتات من إنتاجه وتوزيعه، إذ بات من السهولة بمكان أن يبتاع أي شخص عابر كتاباً ويحوله إلى نسخة إلكترونية ثم ينشره على شبكة الإنترنت لتضيع حقوق الناشر والمؤلف، وقبل ذلك كله ربحية الدار واضعاً إياها وجها لوجه مع شبح الإفلاس دون أن يرف له جفن، بل إن الأكثر غرابة أن معظم من يفعلون ذلك هم فئة المؤلفين بشكل غير معلن، رغبة في زيادة جماهيرية إصداراتهم، إذ لا تشكل قيمة مبيعات الكتاب العربي المتدنية أي مطمع للمؤلف كما هو معروف للجميع، وهذا كله بالطبع لا يعني معظم القراء الشغوفين بالاطلاع والقراءة عبر أجهزة هواتفهم الذكية في هذا العصر.

اليوم اتضح أن القفزات التقنية تعدت المخاوف القديمة بمراحل إذ باتت شركات الإنتاج الفني التقليدية على وشك الانقراض بسبب كساد بضاعتها التي نهبها أفراد قبيلة «يوتيوب» عيانا بيانا وقدموها للناس مجانا، وهو ما حدث أيضا لكثير من القنوات التلفزيونية التي استغنى عن متابعتها المشاهد لأن محتواها بات متاحاً عبر تطبيقات الفيديو في هاتفه الذكي دون أن يلزمه بوقت مشاهدة محدد كما هو متاح في تلك القنوات، بل إن كثيرا من الناس وأنا أحدهم استغنوا عن أطباق التقاط الفضائيات وملحقاتها تماما واستعاضوا عن ذلك بأجهزة الـ «كروم كاست» صغيرة الحجم التي تعرض المحتوى الإنترنتي والهاتفي على شاشات التلفزيون في منازلهم بدقة وجودة عالية.


آخر المتضررين من التكنولوجيا الاتصالية وربما أكثرهم تأثرا بانتشارها هم أصحاب المتاجر التقليدية الذين انخفضت مبيعات متاجرهم بشكل كبير نتيجة توافر بضائعهم وما هو أفضل منها في المتاجر الإلكترونية على شبكة الإنترنت، وهي متاجر توفر خدمة التوصيل السريع للمنازل، ليصبح من المؤكد أن أي متجر تقليدي يقدم منتجات كمالية كالملابس والساعات والعطور والأجهزة وغيرها ولا يمتلك منصة إلكترونية لبيع بضاعته في الطريق لمغادرة السوق بغير رجعة لأنه توقف في حقبة زمنية غادرها المستهلك مستقلا قطار التقنية دون أن يلتفت للخلف.

ما ينبغي أن يُفهم من كل ما سبق هو ضرورة إدراك صاحب أي تجارة أو محتوى معلوماتي أو منتج مطروح للبيع والاستهلاك أن فلسفة التقنية الاتصالية اليوم هي (جعل الحياة أكثر سهولة) وبناء على ذلك تنجح المشاريع أو تفشل، ولا علاقة للأمر بالحظ ودعاء الوالدين، فالسماء لا تمطر أرباحا في جيوب من لم يستوعبوا دور التقنية والأنماط العصرية للمستهلك الذي غادر الصندوق فيما هم ما زالوا يقفون أمامه بانتظار عودته مرة أخرى.