-A +A
أحلام محمد علاقي
حينما كنا صغارا كنا نسمع أغنية مصرية تقول: «زحمة يا دنيا زحمة، زحمة وتاهوا الحبايب»، وفيها مقطع ظريف يقول «زحمة ولا عادش رحمة، مولد وصاحبه غايب»، وأشكر صديقتي العزيزة التي لا تود أن أذكر اسمها لأنها فكرتني بكلمات هذه الأغنية بذاكرتها الأرشيفية في أغاني وأفلام زمان. المهم أصدقائي، كنا حينما نسمع الأغنية نحاول أن نتخيل بصعوبة آليات الحياة اليومية في مدن مزدحمة كالقاهرة أو شنجهاي أو بيجينج أو دلهي أو مومباي! كان هذا بالنسبة لنا ضربا من الخيال أو كلام أفلام وأغاني نتسلى عليه.

ولكننا الآن لا نحتاج لأن نتخيل ذلك، إطلاقاً، فالزحمة أصبحت جزءاً من واقعنا اليومي، ولعل من تجرأ بالخروج في الأيام القليلة الماضية في مدينة جدة العامرة المدعوة سابقا «أم الرخا والشدة» يشهد على ذلك. فماذا حدث بالضبط: انفجار سكاني أم شلل تام في المرور أم هل قرر فجأة جميع سكان العالم أن يأتوا ليزورونا ليوسعوا صدورهم بمناسبة الغيم والطقس العليل في ربوع بلادنا العزيزة؟


فعدد السيارات المهول في الشوارع المقرون ببطء حركة السير، كانا في الأيام الماضية فوق-خياليين! كنت أفرك عيني لأصدق ما أرى: صفوف طويلة من السيارات المزدحمة الملتصقة ببعضها بطريقة خطرة ومزعجة ومرعبة تمتد بطول البصر! السيارات واقفة تماما وحركة السير أبطأ من زحف القواقع التي يسميها الفرنسيون «الإيسكارجو» وهي بالمناسبة من الوجبات المحترمة.

ما علينا من هذا الآن ودعونا من سيرة الفرنسيين لنعود لأرض الواقع، وزحف سياراتنا المصونة في الزحام الذي كلف بعض الموظفين ضعف أو ضعفي الوقت ليصلوا لمنازلهم في هذه الزحمة. وطبعا نظراً للازدحام فالسيارات التصقت ببعضها ورأينا حوادث عديدة. فمن الطبيعي في وضع مزدحم حينما تتوتر الأعصاب ويحدث تأخير أن يحاول كل قائد سيارة أن «يطاحش» على قول إخواننا اللبنانيين ليسلك قبل الآخر. فالازدحام يولد التلاصق المكاني.

وأذكر ذات مرة أن بروفيسورا في علم الأنثروبولوجي تحدث عن ذلك يصف سيكولوجية الزحام وكيف أن المسافات التي يتركها الأشخاص بينهم وبين الآخرين تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات. ففي المجتمعات المزدحمة مثل الهند أو الصين يكون معتادا أن يلتصق الناس ببعضهم عند السير أو عند الوقوف بطابور ولا يجدون في ذلك غرابة وذلك من الانفجار السكاني وكثرة الناس، فتعود الناس على ترك مسافات قليلة جدا بينهم وبين الآخرين. وأما في المجتمعات الشمال أوروبية مثلا فإنك إن اقتربت زيادة عن اللزوم قليلا من شخص وأنت تقف في طابور فسوف يمتلئ منك رعباً ويلوذ منك فراراً مفسراً ذلك بطريقة سلبية جدا فأنت بفعلك ذلك قد اخترقت هالته الوهمية المعتادة.

نعود مرة أخرى لأرض الواقع لنترك الشمال أوروبيين في حالهم، فما الذي يحدث في جدة؟ ولماذا حركة السير المشلولة و«المقعدة» هذه؟ ربما أكون في فقاعة وهمية منفصلة عن الواقع؟ فهل هناك مناسبة عظيمة لخروج الجميع سويا؟ هل هناك حدث ما قد فاتني؟ هل اتفق جميع سكان المدينة على الصمت وتكميم الموضوع عني؟ هل كلكم مدعوون لحفل لا أعرفه؟ أم هل هناك فعاليات لم أسمع عنها؟ ولكن لو عرف أحد منكم أصدقائي أسباب الزحام وعرقلة السير فليقل لي – مشكوراً.

وبالمناسبة وصلت صديقة لي بيتها يوم أمس بعد الدوام فأخذتها الرحلة ساعة ونصف بدلا من نصف الساعة، نتج عن ذلك فقدانها للإحساس في قدميها صعودا إلى ظهرها وحينما فتحت باب السيارة لتنزل وجدت نفسها تتكوم على الأرض بلا حراك!

وهذه ضريبة الزحمة يا كرام.