غلاف رواية موت صغير
غلاف رواية موت صغير
إبراهيم شحبي
إبراهيم شحبي
-A +A
إبراهيم شحبي *
يلفت عنوان الرواية نظر القارئ إلى سؤال: هل في الموت صغير وكبير؟!، ولأن الموت قيامة الإنسان فهو حدث كبير، وموت رجل عظيم ملأ ذكره الآفاق كالصوفي (محيي الدين بن عربي) الذي جاء بالعجائب وعُرف بالغرائب كان حدثاً كبيراً، إلا أنه وقع في صمت حينما ضاقت به الدنيا آخر عمره في دمشق فبحث عن عمل ليسد جوع أسرته فنفر المستأجرون من شيبه وانحناء ظهره ليشفق عليه أحدهم ويستأجره للعمل في بستان صغير قرب بيته بدرهمين في اليوم، وبعد أشهر وهو ذاهب إلى عمله سقط بين أرجل خيل زمرة من العسكر وداسته أقدام الفارين من السياط، وعندما حاول النهوض ضرب برأسه جدار أحد البيوت، وأصاب فكه حجر ارتد من دروع العسكر رماه أحد المتجمهرين فنزف دما، لكنه تحامل على نفسه إلى البستان، وهناك مات في صمت بعد أن وجده صاحب الحديقة في الرمق الأخير، وتوحي مقولة ابن عربي (الحب موت صغير) بالمعاناة التي وجدها في علاقاته بالنساء وخاصة (نظام بنت الأصفهاني).

تقع رواية (موت صغير) للروائي (محمد حسن علوان) في 590 صفحة، صدرت عن دار الساقي 2016 وتحكي سيرة علم من أعلام التصوف بلغة عذبة وخيال واسع، زاوج فيها الكاتب بين رحلة مخطوطة بدأت من سنة 610هـ في أذربيجان إلى سنة 1433هـ في بيروت، وبين سيرة لحياة الراوي ابن عربي مسنودة بأحداث تاريخية وتفاصيل حياتية في اثني عشر سفراً.


في البداية يتحدث الراوي (ابن عربي) عن مولده لأب يعمل في بلاط (ابن مردنيش) أحد أمراء المرابطين في مرسية، ولأم لم يكن لها شأن، إلا أن مرضعته (فاطمة بنت المثنى) بينت له أن طريقه إلى المعرفة والكشف يمر بأربعة أوتاد شريطة أن يطهّر قلبه، وكانت قد نظرت في شامة تحت عين أبيه اليسرى فبشرته بولد يرفع ذكره، لكنه يخالف طريقته.

جمع الكاتب أشتات رحلة طويلة من الأندلس إلى شمال أفريقيا ثم الحجاز ومصر والشام قضاها ابن عربي في طلب الأوتاد مستعيناً بالترقي المعرفي بداية بخروجه من مرسية التي ولد فيها إلى إشبيلية، ثم إلى قرطبة، ومراكش، وفاس، وبجاية، والإسكندرية، ومكة، وبغداد، وملطية وغيرها من المدن، وانتهاء بدمشق التي دفن فيها، ظل كل تلك السنوات في رحلة بحث لكي يصل إلى مرتبة القطب في جهاد شاق سخّره في طلب المعرفة فقرأ الكثير من الكتب وتعلم على كثير من العلماء، وعلم مئات الطلاب.

وتصف الرواية على لسان ابن عربي تفاصيل السير من مدينة إلى أخرى، وأنواع المشاق والعقبات والأهوال التي صحبت تلك الرحلات، وتتوغل في وصف أحوال المدن التي أقام فيها، وحالات الحروب بين المرابطين والموحدين مرات، وأخرى بين العرب وجيوش الفرنجة، وقد عصفت تلك الحروب بالكثير من مدن الأندلس وشمال أفريقيا، كما تستحضر الرواية كثيراً من أسماء الخلفاء والأمراء وبعض قادة الجند والدراويش والعلماء والأعلام، وطلاب العلم، والخدم، وتتحدث الرواية عن علاقة ابن عربي ببعض المتصوفة من أصدقائه كالحريري والخياط، والترجمان فريدريك الذي مارس نقل العلوم من لغات الروم واليونان إلى العربية، كما تتحدث عن تعرّفه على عدد من الوراقين في إشبيلية التي أمضى فيها سنوات حيث تعرض فيها للجذبة الأولى فدخل المقبرة وعمره اثنتان وعشرون سنة، ثم عمل كاتباً عند الخليفة ليرضي والده، وتزوج (مريم بنت عبدون) ليغادر إلى مراكش ثم فاس التي تعرّف فيها خلال سبعة أشهر على الأولياء وأهل الطرق، وخلا بتسعة منهم في بستان ابن حيون، وارتدى الخرقة.

وكانت عودته إلى إشبيلية ليستقبل مولودته (زينب) وهناك تم انقطاعه مع الكومي في المقبرة مدة ست وسبعين ليلة ليكتشف أن الكومي وتده الأول بعد حوار صوفي عن الحضرة ليوصيه الكومي بالبحث عن وتده الثاني في أفريقيا.

تعرّف ابن عربي في رحلاته على أصناف عديدة من البشر، وجالس العديد من الأمراء والولاة ووقف على كثير من المؤامرات التي تحاك في مجالسهم ضد العلماء من قبل بعض إفراد الحاشية، من ذلك ما قيل عن ابن رشد في مجلس الخليفة يعقوب فنفاه إلى أليسانة ثلاث سنوات، أو ما قيل عن العالم الصوفي شعيب بن الحسن ليستدعيه الخليفة للحضور من بجاية إلى مراكش فمات في الطريق، وعندما منع الخليفة ابن عربي من التدريس في مراكش خرج إلى بجاية بزوجته وابنته حيث تركهما هناك وركب البحر إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة لمقابلة صديقيه الخياط الذي أصابه الفالج فأقعده، والحريري الذي بقي لتمريضه ليكتشف ابن عربي أن الخياط وتده الثاني.

كانت رحلة البحث عن الأوتاد مضنية جداً لأنه كلما توقع أن شخصاً من المتصوفة وتده خاب ظنه، من ذلك توقعه أن السبتي الذي استدعاه الخليفة للتعليم في جامع مراكش هو وتده الثاني فتفاجأ به يخلع الخرقة له ما يعني أنه ليس وتده، ولم يتوقع أن صاحبه الخياط الذي عاش معه زمنا هو وتده الثاني، وفي مكة تعرّف على شيخه (زاهر الأصفهاني) والد (نظام) التي هام بها حباً أثناء حضورهما دروس عمتها (فخر النساء)، وهامت به، فيختلس غفلة من العمّة ليمنحها قبلة، ثم يطلبها للزواج فتمتنع رغم موافقة أبيها وحثه لها، ليكتشف ابن عربي أنها وتده الثالث حين قابلها في رباط في بغداد بعد أن خرجت هرباً بسمعتها من أشعاره التي خلفها على ألسنة الناس في مكة وضمها ديوانه (ترجمان الأشواق)، وفي مكة كتب (الفتوحات المكية) أشهر كتبه، ومع ما أصابه من حزن على موت ابنته زينب وهي في طريقها مع أمها إلى مكة، ثم إصرار زوجته مريم على تركه والعودة إلى بجاية دون أن تسمح له بمسها فإن رحلة الألم والمتاعب تمضي به إلى ملطية فيتزوج فاطمة بنت يونس، ثم يطلقها عند عودة زوجها المحارب، وبعد أن يتزوج من (صفية) أرملة صديقه إسحاق، ويسجن بسبب آرائه وبعد خروجه بحين يجد وتده الرابع (شمس التبريزي) بعد أن أضناه البحث ليعود إلى دمشق وفيها يموت.

الرواية رحلة ممتعة ومثيرة، زاخرة بأحداث البلدان وحوادث الأيام ومفارقات الأقدار، وهي بحق مغامرة ثرية استطاع أن يخوضها الروائي محمد حسن علوان باقتدار، وأن يعبّر عنها ببراعة.

* كاتب