-A +A
علي العميم *
استرعى انتباهي في مقال الكاتب محمد علي المحمود (نحو خطاب إسلامي مستنير) الذي عرضت فكرته الرئيسة وشرحتها في مقالي السابق، أنه أعاد قول الفقرة الثانية من مقاله في الفقرة السادسة نصاً مع إضافة ما مقداره سطر واحد وبضع كلمات إليها، استرعي انتباهي هذا الأمر، وأشرت إلى أن وضعه لكلامه المكرر في الفقرة الثانية والفقرة السادسة كان خاطئاً، وأن مكانها الصحيح هو الفقرة الخامسة، للمحافظة على التسلسل الزمني الذي وضعه في مقدمته التاريخية التي مهد بها في مقاله للتبشير بعدنان إبراهيم. بعد ثلاثة أسابيع، كتب في الزميلة (الرياض) مقالاً تبشيرياً آخر بعدنان إبراهيم كان عنوانه (إسلام بل إسلاموية... الإسلام والتاريخ) أعاد فيه ما فعله في مقاله السابق، فكرر الفقرة الثانية مرة أخرى في مقاله هذا! كررها في خاتمة المقال، وزاد عليها خمسة أسطر. وهذا كثير إذا ما قارناها بالزيادة الطفيفة التي كانت من نصيب الفقرة الثانية في مقاله الأول عن عدنان إبراهيم.

فما سر تكراره للفقرة الثانية في مقاليه؟ ولماذا يلجأ للتكرار أصلاً؟


في ظني أن الأمر يتعلق بمضمون الفقرة، ومضمون الفقرة في المقالين كان هجوماً على السلفية التي يسميها بأسماء عامة غير دالة حصرياً عليها. وفي تصوري أنه بسبب هجومه الشديد الضاري المتكرر على السلفية – الذي استقر في وعيه المتحامل والزائف أنها هي مشكلة المشاكل وعلة العلل ومصيبة المصائب – ضاق سلك المشايخ الرسمي بهذا الهجوم على المذهب والتيار السلفي، فاعترضوا لدى الصحيفة على مقالاته، فطلبت الصحيفة منه أن لا يتعرض للسلفية في مقاله الأسبوعي، فاضطر أن يحتال ويسمي السلفية بأسماء عامة ويواصل الهجوم عليها، وهجومه عليها – بالنسبة له – جهاد بالمعنى الديني، ونضال بالمعنى العلماني. لهذا نجده حريصا أن يكون الهجوم عليها في فقرة متقدمة من مقاله حتى لو أخل ذلك بتنسيق المعنى، فيقدم ما يجب أن يتأخر، وحتى لو تعارض ذلك مع العرض المتدرج للفكرة، كما رأينا في مقالنا السابق في الفقرة المكررة بخصوص الحنابلة وأهل الحديث في مقاله الأول عن عدنان إبراهيم. ثم يكرر تلك الفقرة مرة أخرى مع الزيادة فيها إما في بطن المقال وإما في خواتيمه، للتلذذ بينه وبين نفسه بما صنعه، ولإبراز ما صنعه والتشديد عليه أمام الفئات والاتجاهات المعادية للسلفية من المعجبين بكتاباته من مشارب مختلفة، على اعتبار أنه بطل قفز على الحواجز واخترق السدود التي تمنعه وتصده عن الهجوم على السلفية.

أميل إلى هذا التفسير، لأني أستبعد أنه يكرر إيراد فقرة في مقاله للإيفاء بنصاب الكلمات المخصص له في مقاله الأسبوعي، فالرجل لا تعوزه القدرة على إيجاد كلمات ورصف جمل وصف تعابير، إذ إن كتابته تعتمد –أساساً– على الإغراق في الإنشاء والحشو اللفظي. في مقاله الأول عن عدنان سمى السلفيين بالتيارات النقلية التقليدية وفي مقاله الثاني عنه – قيد المناقشة – سماهم تارة بالتقليديين الانغلاقيين وتارة ثانية وصف عمارة فكرهم بالتقليدية وتارة ثالثة سمى تيارهم بتيار التقليد الأثري الاتباعي واستخدم هذا الاسم مرتين، وتارة رابعة سمى السلفيين بحملة الثقافة الجماهيرية التقليدية الأثرية، وثارة خامسة سماهم بالمدرسة التقليدية المتطرفة.

لننظر في الفقرة التي كان من حظها أن فازت عنده بــ(حق امتياز التكرير) أو التكرار. تقول الفقرة: «إن التقليديين الانغلاقيين يريدونها معركة مواقف وانتماءات وتحالفات، لا معركة أفكار وتصورات. يريدونها التفافاً عقائدياً دوغمائياً حول مواقف مبدئية مزعومة لا يمكن التفكير فيها، حتى يتمكنوا من تجييش الاتباع للصراع، دون أن يتركوا لهؤلاء الأتباع فرصة التفكير فيما هو محل البحث». والله ثم والله أن هذا هو نص الفقرة التي اعتقد صاحبها المحمود أنها نقد خطير وفاتك ومزلزل، أردى السلفية به، واستطاع أن يناور ويراوغ ويخاتل المسؤول عن إجازة مقالاته في الزميلة (الرياض)، ويمرره إلى القارئ تحت اسم مموه وخادع هو (التقليديين الانغلاقيين)! إني أسأل مستنكراً: ما وجه التناقض أو التعارض أو التقابل بين معركة المواقف والانتماءات والتحالفات وبين معركة الأفكار والتصورات؟! فالذي يريدها معركة أفكار وتصورات حتى لو كان فرداً ويتيماً في هذه الأفكار والتصورات ليس له فيها أب ولا أم ولا أخ ولا أخت لا بد أن يكون منتمياً إليها، ولا بد أن يتخذ موقفاً أخلاقياً في الالتزام بها وموقفاً آخر مضاداً للأفكار والتصورات المناقضة والمعادية لها، ولا بد أن يكون منفتحاً على عقد تحالفات سواء مع أفراد أو مدارس أو اتجاهات أو تيارات تتقبله وتقبل عليه لغاية ذاتية أو موضوعية، للاحتماء بها في مواجهة المحيط المعادي له، ولإيجاد قنوات لبث أفكاره وتصوراته ونشرها. إننا إن أزلنا كلمة (مزعومة) من تلك الفقرة، لأنها لا تتسق والوصف الموضعي المجرد، إذ إن تلك المواقف المبدئية -بالنسبة لأصحابها- هي حقيقية وليست مزعومة، فهي مزعومة في لجاج الخصوم والأعداء مع أصحابها. أقول إن فعلنا هذا، فإن كل ما جاء في تلك الفقرة ينطبق على كل عقيدة ومذهبية دينية وغير دينية. لا يحسبن القارئ أن غاراته الهجومية على السلفية اقتصرت في مقاله على المواضع التي ترد فيها تسمية عامة لها والتي حصرتها في خمسة تسميات، بل كانت تترافق ومعلقات مديحه بفتوحات عدنان النظرية والعلمية الجريئة غير المسبوقة عند المسلمين في سالف العصر وفي حاضره!!! لب مقاله الثاني -ولا أبالغ- في التبتل في محراب عدنان، هو في هذا الكلام المقتطف من مقاله:

«وهذا ما أدركه -بعمق- الشيخ عدنان: فلم يقرأ طغيان الحاضر بوصفه ظاهرة استثنائية طارئة، أو نبتة شيطانية، وإنما رجع إلى أعماق التاريخ، إلى أعماق ذلك التاريخ المحصن ضد النقد، رجع يبحث في أغواره عن مصدر هذا الاستبداد والطغيان».

«يستحيل على أي باحث متجرد (...) أن يتناول مسألة الاستبداد والطغيان الذي ساد وقاد التاريخ الإسلامي (...) دون أن يبدأ بحثه من نقطة البداية، أن يبدأ بتحليل شخصية أول طاغية أسس للقهر والطغيان واقعاً وثقافة، وقضي بالقوة المادية/‏‏ الواقعية والقوة الثقافية أيضاً- على كل ما قدمته تلك الخطوات الأولى للرشد السياسي». «عندما حلل الشيخ عدنان، شخصية الطغيان الأولى في تاريخنا القديم، وكشف للجماهير -المخدوعة على مدى قرون- عن أشياء لم تدر له بخلد، بدا وكأن بنيان التقليدية يتهاوى من أساسه، بدا وكأنه يتحطم على رؤوس المنتفعين بدجله وخزعبلاته المطلية بأوهام اليقين الديني».

أول طاغية أسس للقهر والطغيان وشخصية الطغيان الأولى في تاريخنا الحاضر يقصد به معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية. وهو هنا يشير إلى سلسلة محاضرات عدنان إبراهيم عنه التي ألقاها قبل كتابته مقاليه عن عدنان إبراهيم بثمانية أشهر. وطغيان الحاضر يقصد به ديكتاتورية الأنظمة السياسية العربية القومية وفي طليعتها ديكتاتورية صدام، لأنه أول ما بدأ في الكتابة في الزميلة (الرياض) كان يركز الهجوم عليه، وقد كتب عنه كثيراً. وكان يعتبر دكتاتورية صدام امتداداً واستمراراً لطغيان بني أمية -مع التحفظ على هذا التعبير- وطغيان الحجاج بن يوسف. ولأنه كان يقول بهذه الفكرة ويلح عليها مراراً وتكراراً كان ثمة موقع شيعي سعودي إخباري يحتفي ويعلي من شأن كل مقال يكتبه أسبوعياً. فالفكرة التي قدم المحمود إمامه عدنان إبراهيم وكأنه صاحب فتح نظري واجتراء نضالي فيها، كان يقول بها بعض الكتاب السعوديين قبل عدنان إبراهيم وقبله. وهي على العموم فكرة قديمة وشائعة في بعض دفاتر الثقافة السياسية العربية ذات المنحى والنفس الليبرالي والتي يقول أصحابها بها، لا لسبب طائفي ولا انزياحاً إلى الرؤية السياسية الشيعية إلى التاريخ.

والذين يقولون بها هم أصحاب ثقافة مجملة ومعرفة عامة، ممن تغريهم الإطلاقات ويشغفون بها، ويستريح فكرهم لها.

الدكتاتوريات العربية العسكرية مصدرها وأنموذجها غربي، وليس مصدرها وأنموذجها مستمد من تراث العرب السياسي ولا من تراث المسلمين السياسي حتى القريب منه كالتراث المملوكي والعثماني، ولا هي -أيضاً- امتداد واستمرار لهذه التراثات. فالديكتاتوريات العربية العسكرية مصدرها وأنموذجها مستلهم أولاً، من الفاشيات الأوروبية، وثانياً، من الأنظمة الشيوعية الشمولية.

إن تعليم ضباط الجيش من جيل الأربعينات ومن جيل الخمسينات الذين نجحوا في القيام بانقلابات في بعض البلدان العربية، كان تعليماً حديثاً وثقافتهم كانت ثقافة حديثة، وكانوا متعلقين بالأدبيات الثورية الغربية، وبخاصة أدبيات الثورة الفرنسية وكان كذلك هو شأن جيل عسكري سبقهم، وهو جيل الضباط العرب العثمانيين. وكان همهم هماً معاصراً وعلمانياً وتحديثياً ولم يكونوا مشدودين إلى أمجاد خلفاء الإسلام وسلاطينه. وكانوا ضد الرجعية والإقطاع والاستعمار والصهيونية والإمبريالية، ومع النظام الجمهوري وضد النظام الملكي ومع الحزب الواحد وضد التعددية الحزبية ومع الاشتراكية وضد الاقتصاد الحر. ومن يكون ضد ومع، فإن موقفه هذا مستمد -قطعاً- من تراث أوروبا وروسيا الحديث وليس من تراث الإسلام القديم والمتأخر.

وكما لا يخفى أنه كان لأبناء الأقليات في سورية، كالعلويين والدروز والإسماعيلية ثقل كبير في الجيش السوري، لذا فمن الحمق والعته أن نرد استبدادهم إلى معاوية بن أبي سفيان وإلى بني أمية. كما قدمه في مقاله هو أقدم وأكبر وأقدس صنم طغيان في التاريخ العربي الإسلامي، ويقدم عدنان إبراهيم وكأنه هو الوحيد الذي اجترأ وحطم هذا الصنم المقدس. ومن المعلوم أن معاوية بن أبي سفيان تقدم شخصيته في المصادر التاريخية بوصفها شخصية غير مثالية إلى حد الإجحاف بحقه، والروايات التي تنصفه وتنصف بني أمية هي قليلة ومتناثرة، وتوجد في كتب الأدب أكثر مما توجد في كتب التاريخ. معاوية بن أبي سفيان لم يكن طاغية ولم يكن مستبداً، فمن كان بمثل حلمه ودهائه لم يكن بحاجة إلى أن يكون في الصورة المختلقة عنه والمفتراة عليه.

إنه كما تقدمه كلمتاه: «لأن يساس الناس باللسان أفضل من أن يحكموا بالسيف». «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها».

كنت قد قلت في أول حلقة من حلقات هذه السلسلة (أثر تحولات الصحوة في الافتتان بعدنان إبراهيم) عن فئة من الصحوة اكتسبوا وعيهم السياسي والثوري من فكرها: أنه راقت لهم إدانة عدنان إبراهيم للحكم الوراثي في محاضراته عن معاوية بن أبي سفيان، لأن هذا النمط من الحكم يعتقدون –ومعهم كثيرون في هذا الاعتقاد الخاطئ- مضاد لطبيعة الحكم الإسلامي ومناف له، وخروج عن شريعته. وسأوضح رأيي في هذه المسألة.

إن الموقف النافر من النظام الملكي هو في أصله موقف عربي يعود إلى حياة العرب ما قبل الإسلام. ففي القبيلة الشيخ سلطاته هي في نطاق محدد، وليس بالضرورة أن يرثه ابنه في المشيخة. وفي الحواضر هناك مجموعة من الشيوخ تتوزع في ما بينهم مهام وسلطات. وكان العرب بادية وحاضرة، ينفرون من السلطة المركزية ومن حكم الفرد الذي بيده كل مقاليد الأمور. وهذا يرجع إلى بساطة وبدائية حياتهم، وإلى فرديتهم بمعناه السلبي.

النقمة على معاوية بن أبي سفيان كانت في تحويله الخلافة إلى نظام ملك وراثي مع أن نظام الملك الوراثي هو السائد في الممالك والإمبراطوريات المتقدمة وهو الأفضل في القرون الوسطى. وعليه كان إدخال معاوية مبدأ الوراثة في الخلافة تطوراً وترقياً سياسياً في تاريخ الحكم الإسلامي.

أشد وأقوى معارضي معاوية بن أبي سفيان ودولة بني أمية كانوا ينطلقون من تصور مغرق في ثيولوجيته، وكانوا على طرفي نقيض في هذا الأمر. الشيعة يدعون إلى أن يكون الحاكم إماماً دينياً وإماماً دنيوياً وأن يكون الحكم في نسل علي بن أبي طالب استناداً إلى وصية إلهية. والخوارج يدعون إلى أن يكون الحاكم مجرداً من السلطة السياسية والدينية وذلك تحت دعوى أن الحكم لله. والذي يحكم فعلياً هو الجماعة لا أمير المؤمنين الذي يريدونه مجرد واجهة أو حاكم صوري. وفي الأخير أخذوا بالنظام الوراثي حين قامت دولتهم، الدولة الرستمية.

أطيح بالدولة الأموية عبر ثورة عنيفة دموية. كان مبررها دعوة دينية شيعية، أقامت على أنقاض الدولة الأموية دولة قائمة على حكم وراثي وهي أكثر أوتوقراطية وأعظم إطلاقية وشمولية منها. هذه الثورة هي الثورة العباسية وهذه الدولة هي الدولة العباسية.

*باحث وكاتب سعودي