-A +A
خالد صالح الفاضلي
وجدته هكذا، عاصمة العالم، (رغم ادعاءات واشنطن) فالفسطاط حياً عتيقاً، على هضبة صغيرة، ناهدة تقع على الجانب الأيمن من صدر القاهرة، وتتشابك جدرانه حاضنة (معبد يهودي، كنيسة مسيحية، ومسجد)، بينما يتشاطر خدمتهم جميعا مسلمون ومسيحيون، أغلبهم يسكن بيوتا لصيقة بثلاثي دور العبادة.

كان لافتا، وصادقا، ومانحا للحكمة، ذلك الكلام الذي تنطقه جدران مسجد عمرو أبن العاص (بنوني مسجدا، بجوار معبد وكنيسة، ولم يكونوا نزاعين لهدم أي منهما من أجل توسيع نفوذ جدراني، أو معتقدهم)، بينما كان للمعبد اليهودي صوته وصموده (كنت الأول ههنا، ثم لحق بي كنيسة، ثم مسجد، لم أرفضهما، ولم يطرداني)، وتشترك المعابد الثلاثة في ماء وطين المكان، بينما لكل منها «منبر، مآذن، وكتاب» كذلك دعاء يصعد إلى ذات السماء.


يجتمع معبد ابن عزرا اليهودي، والكنيسة المعلقة، ومسجد عمرو ابن العاص على مساحة أصغر من أرض ملعب كرة قدم، وأكبر من كل ألاعيب مصانع صراع الأديان، بينما جلوس حراس مسلمين على باب المعبد والكنيسة يجسد وصايا الإسلام، بما فيها وصية الخليفة الأول (وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له).

أطلقت مصر اسم (مجمع الأديان) على الحي العتيق، وكان غلاف كتاب الحكاية -بالنسبة لي- رؤيتي لرجل مسلم، ريفي مصري، يتشارك مع عجوز مسيحية بقعة صغيرة تحت جدار الكنيسة، انسدلت عليها أشعة شمس من بين غيوم شتاء القاهرة، وبينهما حديث مودة عززه وجودهما في خدمة المعابد الثلاثة منذ سنوات طويلة.

يتموضع حي الفسطاط وفق التسمية التاريخية أو (مجمع الأديان وفق التسمية العصرية) في دثار عمراني قديم، لكنه أكثر حدة من خنجر في خاصرة كل دعاة الشتات بين شعوب الأديان، وترابه يناديهم للاغتسال من أحقادهم، وقناعاتهم السوداوية، بينما رؤية أطفال المدارس القريبة في طرقات الفسطاط لا تمنحك أبدا القدرة على معرفة دين أحدهم، فالوجه واللسان (مصر بقوة)، وكل مدرسة في الحي تقوم بجولات وشروحات وجرعات احترام لكل المنابر الثلاثة.

كان التواجد هناك لساعة من وقت الوعي يكفي للتأكيد بأن (دواعش الأديان الثلاثة) يصنعون سمومهم ثم يموتون بها، وأن كل دين تكاثرت فيه أقلام وأصوات التسييس، والبحث عن مكانة من خلال زرع (الحقادة، الكراهية، والبغضاء)، وهي ثقافة نرفضها صغارا ثم مع مرور الوقت نعتنقها كبارا، تماما كأضرار الوجبات السريعة إذا اعتنقناها كثقافة غذائية.

كان أول سؤال عض لساني عن وجود «مركز الملك عبدالله لحوار الأديان» في جنيف، نائيا عن البيئة التطبيقية النموذجية الموجودة في حي (مجمع الأديان)، مع وجوب أن أهز رأسي استجابة للقول المحفوف بمخاطر التفسير.

يوشك حي الفسطاط أن يتحول إلى أهم مركز للحوار بين الأديان السماوية إذا سارعت مراكز الدراسات الدينية للتموضع بين زواياه، فكثير من نظريات التفرقة سوف تتشتت مع رؤية أطفال مسلمي ومسيحيي الفسطاط يلعبون معا، وعيون حب تتكاثر بين شباب وشابات الحي، فالمكان قطعة من الجنة روحياً.