-A +A
خالد عباس طاشكندي
لم تكن مقولة «الحقيقة دائماً أغرب من الخيال» التي أطلقها الشاعر بايرون في القرن التاسع عشر مجرد خاطرة عابرة، لأنها تنطبق على الكثير من وقائع الحياة وخصوصا عندما تزداد قساوة الظروف، وهذا ما حدث أخيراً مع المواطنة نورة الغامدي التي روت قصتها على إحدى القنوات التلفزيونية، قائلة إنها تغربت ثماني سنوات لتحقق حلمها في الحصول على شهادة أكاديمية عليا في تقنية النانو لعلاج مرضى السرطان ثم عادت إلى أرض الوطن لتصحو على مرارة الواقع وتصطدم به لينتهي بها أمام «بسطة» لبيع ساندويتشات الشاورما على إحدى جنبات كورنيش الدمام تسد بها رمق العيش، ولذلك دحرجت تساؤلاً على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» طرحته للقراء كـ«بالونة اختبار»: هل عمل هذه الشابة، باعتبار أنها متعلمة وحاصلة على درجة علمية مرموقة، يعد عيبا؟!

لقد كانت ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي غاضبة ومنصبة في اتجاه واحد، معتبرين أن الفساد والمحسوبيات والوساطات هي التي أضاعت فرص الاستفادة من هذه الشابة والعديد من الكفاءات المميزة وحاملي المؤهلات العلمية العليا، والبعض يقول إن هذه الشابة هي نموذج لما ستصل له خطة التحول الوطني، إلا أن أياً من هؤلاء لم يبحث عن الحقيقة الكاملة وأدركوا نصف الحقيقة فقط مكتفين بما شاهدوه في التقرير المصور المتداول في الصحف الإلكترونية ومواقع التواصل، فحين قرأت تصريحات المواطنة نورة لـ«عكاظ» الثلاثاء الماضي، اتضحت الصورة أكثر، فهي كانت معلمة بإحدى المدارس وقررت بمحض إرادتها أن تترك مجال التدريس وتتخلى عن الوظيفة قبل أن تحصل على التثبيت رغبة في الحصول على درجة علمية أعلى قد تفتح لها آفاقاً أوسع عندما تعود للوطن، واتخذت قرارها دون أي ضمانات للحصول على وظيفة.


ولذلك لم يدرك أولئك الذين صبوا جل غضبهم على الوزارات والمسؤولين وخطط الدولة المستقبلية وفقاً للمعطيات والظروف المحيطة، كامل ملابسات القصة، فكانت ردود الفعل في مجملها عاطفية لا تلامس الواقع والحقيقة وغير موضوعية، فالدولة والمسؤولون وضعوا بعضاً من الحلول المنطقية للطامحين إلى الابتعاث للخارج مثل برنامج «وظيفتك بعثتك» الذي يضمن للمبتعث حصوله على الوظيفة بعد التخرج، أو الابتعاث عن طريق جهة العمل بحسب ما تتوفر من فرص، وإذا لم تتوفر هذه أو تلك فعلى الإنسان أن يفكر ملياً في اتخاذ قراراته بحكمة وفقاً للخيارات التي أمامه.

لا يعني هذا أنه ليس لدينا فساد ولا محسوبيات أو خلل ما، لكن المسؤولين لم يستسلموا وهناك جهود مبذولة وخطط للقضاء عليها، ولكن المشكلة في المجتمع الذي لا يريد تقبل الواقع، وهو أننا نعيش في دولة نامية بدأت تجربتها في البناء والتنمية من الصفر، وعلينا أن نتخلص من قوقعة الاقتصاد الريعي والدولة الريعية لأن الموارد الطبيعية التي أنعم الله بها علينا لن تدوم، ولن نتطور نحو تحقيق مفاهيم المدنية والبناء والتنمية المستدامة إذا بقينا على حالة الركود والخمول والمعتقدات الخاطئة بأن الدولة يجب أن توفر لنا كل وسائل وسبل الحياة مجاناً دون عناء، فنحن حتى هذه اللحظة نستأجر العمالة الخارجية لتنظيف الشوارع والاعتناء بالأبناء وبناء المنازل وتشييد العمران، ونطالب بالمدنية والتطور دون أن ندرك أن لها ثمنا باهظا، نريد أن نحقق كل شيء ونحن راكنون على التقاليد البدائية التي توارثناها، والبعض بكل أسف يطرح مقارنات جائرة مع بعض الدول التي حققت تطوراً، دون عناء البحث في عمر التجربة والعوامل الديموغرافية والجيوسياسية والتاريخية وغيرها من العوامل المحيطة.

«الحقيقة دائماً أغرب من الخيال» هذه المقولة واقعية وليس بايرون وحده من توصل إليها، فقد تقاطع معه الأديب الراحل نجيب محفوظ في روايته الشهيرة «القاهرة الجديدة» حين قال في طياتها وهو يسرد واقع الظروف والتقلبات السياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر في حقبة الثلاثينات: «أفليست الحقيقة أغرب من الخيال؟!»، فهي حكمة صدرت عنهم بعد خبرة طويلة وقراءة عميقة لوقائع من الحياة، ولكن الحقيقة أيضاً هي أننا نخشى «الواقع» ونتهرب منه بدلاً من أن نتقبله ونتعايش معه، وعلى الأرجح أن عدم تقبل الواقع هو طبيعة بشرية، إذ يقول نيتشه «ما من فنان يتحمل الواقع»، ولكن كما يقول ألبير كامو «لا أحد يستطيع الاستغناء عن الواقع».

لذلك علينا أن نكف عن الطوبائية والابتعاد عن الواقع، أو النظر إلى الواقع بسوداوية والتباكي على الماضي والإكثار من المطالب العقيمة، فعلينا التعايش مع هذا الواقع وخياراته بعقلانية أيا كانت الظروف، والعمل والسعي للتغلب عليها أيا كانت ضراوة وقسوة الحياة لكي نمضي قدماً.. إذا كانت لدينا الإرادة للتقدم.