-A +A
طلال صالح بنان
تاريخياً: تحديد ولاء الفرد داخل المجتمع مشكلة جدلية، على مستوى النظرية والممارسة السياسية. هذه المعضلة السياسية تواجه أيضاً أكثر المجتمعات الليبرالية المتقدمة الحديثة. الولايات المتحدة في الحربين الأولى والثانية تنكرت لمبادئها الدستورية لمجرد افتراض الشك في ولاء بعض مواطنيها، بالتحديد الذين ينحدرون من أصول ألمانية ويابانية.

يزيد من تعقيد هذه المشكلة ما تسمح به دساتير وقوانين بعض الدول بجواز ازدواج الجنسية. في هذه الدول، التي تحكمها قيم الليبرالية، ترى أن مسألة الجنسية تندرج تحت قيم الحريات والحقوق، مثل الخيارات الدينية، التي على الدولة أن تقف تجاهها موقف الحياد، بما لا يخل بامتيازات المواطنة وحقوقها، على افتراض عدم تطور ظروف تقود إلى وضع الفرد في ظروف من شأنها فرض خيارات صعبة أمامه لتحديد خيارات ولائه السياسي، لأي من الجنسيات، التي يحملها، خاصةً في أوقات الأزمات الحساسة والمصيرية، مثل الحروب.


يوم السبت الماضي ألغت السلطات الهولندية حق هبوط طائرة وزير الخارجية التركي، الذي كان من المقرر أن يحضر اجتماعاً جماهيرياً أمام القنصلية التركية في روتردام، في إطار حملة حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، استعداداً للتصويت على استفتاء 16 أبريل القادم، لتغيير النظام السياسي في البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. السلطات الهولندية قدرت أن حضور وزير الخارجية التركي لمثل هذا اللقاء مجازفة أمنية غير محتملة. بينما رأت الحكومة التركية فيه خرقاً لقواعد التعامل الدبلوماسي بين الدول.. واعتبرته إهانة للكرامة الوطنية، تتطلب أقسى ردود الفعل الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية.

سياسياً: كلٌ من وجهتي النظر الهولندية والتركية تتمتع بوجاهة منطقية وحجة جدلية، وإن كان أساسها يكمن في مشكلة ازدواج الجنسية. بعيداً عن جدل النواحي الأمنية، الذي تحججت بمنطقه الحكومة الهولندية، هناك بُعد سياسي للمسألة، قالت به الحكومة الهولندية. كيف يمكن لرمز سيادي تابع لدولة أجنبية أن يقوم بحملة انتخابية، داخل هولندا. معرفة آراء وتوجهات الناس السياسية، في فعاليات وطنية مثل: الانتخاب والاستفتاء، قاصرة فقط على الدولة التي تتم فيها هذه الفعاليات، التي تعتبر من أعمال السيادة الوطنية. ومن ثَم: مجيء رجل دولة أجنبي للبلاد في إطار حملة حزبية تتعلق بتعديلات دستورية في بلده، أمرٌ لا يمكن السماح به في الدولة المضيفة للجالية التي تنحدر من بلده، المفروض أن الصلة السياسية ببلدهم الأصلي، قد قُطعت بحصولهم على جنسية الدولة المضيفة لهم.

في المقابل، من وجهة نظر الحكومة التركية: إن القانون في تركيا يسمح لمن يحملون الجنسية التركية ويعيشون خارج البلاد، بالمشاركة السياسية في الفعاليات السياسية الكبرى، مثل: الانتخابات والاستفتاءات، كونهم في المقام الأول مواطنين أتراكا، حتى ولو كانوا يحملون جنسيات تابعة لدول أخرى... خاصةً وأنه في هولندا 400 ألف مواطن تركي، قد يحدثون الفرق بين قبول الاستفتاء من عدمه.

مما يدعم وجهة نظر الحكومة التركية، بغض النظر عن رد فعلها في الأزمة، أن الحكومة الهولندية التي تأخذ بنظام ازدواج الجنسية، لا تمانع من حيث المبدأ على أن يصوت مواطنوها الأتراك في استفتاء يجري في موطنهم الأصلي، إلا أنها أخذت ذريعة تصرف سيادي، من وجهة نظرها، لتفادي تداعيات أمنية محتملة.. وإن كانت الحكومة الهولندية ليست بريئة تماماً في تبرير موقفها المخالف للأعراف الدبلوماسية، لتَحَفُظ لديها على تغيير دستوري في تركيا يزيد من قوة الرئيس التركي، الذي ينظر إليه وبلده بقلق، من قبل معظم إن لم يكن كل أعضاء الاتحاد الأوروبي.

أياً كان موقف الحكومة الهولندية من وراء تصرفها الدبلوماسي غير المحسوب بدقة، فإن رسالة حزب العدالة والتنمية التركي وصلت للجالية التركية، دونما حاجة لزيارة أي من الوزراء الأتراك لهولندا. فإن كان من أهداف السلوك الهولندي منع تواصل المسؤولين الأتراك مع دائرتهم الانتخابية في هولندا، فإنه بسبب هذه الأزمة، من المحتمل بل والمتوقع أن يصوت الأتراك في هولندا، بل وفي أوروبا بأسرها، لصالح التعديلات الدستورية منتصف أبريل القادم. وتبقى العلاقات الثنائية بين البلدين ضحية هذا الجدل حول قضية ازدواج الجنسية.

في النهاية: تبقى الدول التي لا تسمح بازدواج الجنسية، أكثر حكمة في موقفها من القضية، مبتعدة عن تعقيدات المسألة، التي تنال من حقوق وامتيازات وواجبات المواطنة.. وكذا تُبقي على احتكارها لولاء مواطنيها، بصورة أكثر كفاءة وفاعلية.

الجنسية الوطنية أغلى قيمة سياسية للفرد، في المجتمعات الحديثة.

talalbannan@icloud.com