-A +A
نجيب يماني
لم تنجُ البشرية منذ أن أنزلها الله خالقها إلى الأرض الدنيا من داء «الكراهية» المقيت، لأسباب متفاوتة، ودوافع متباينة، باختلاف النفوس، والبيئات، والمجتمعات.. وعلى فشو هذه «الظاهرة» قديمًا فإنّ انحصارها في الفرد المقترف لها يجعل ضررها أقل أثرًا، إذا ما قورن بأثرها حين تصبح ظاهرة عامة، و«خطابًا» شاملاً، يقترن بعصبة من الناس، أو أمة من الأمم، مهما اختلفت مغذيات هذا الخطاب، وتشظت مسبباته.

والمجتمع السعودي ليس بدعًا بين الأمم في هذه الظاهرة، مهما ادعينا من الطهر والنقاء، فإن «خطاب الكراهية» في مجتمعنا ظل في نمو واطراد مستمر، إلى أن أصبح اليوم «علة» اجتماعية تتطلب جهدًا كبيرًا للتقليل من أثرها، ولا أقول القضاء عليها، طالما أنّ النفس البشرية في بلاء مستمر مع اقتراف الشرور والآثام، وصدق الشاعر حين قال:


والظُّلمُ من شِيمِ النُّفوسِ، فإنْ تجدْ

ذا عفّةٍ، فلِعلّةٍ لا يظلِمُ

وقد أحسن المسؤولون عن معرض الرياض الدولي للكتاب في دروته الحالية، وهم يفتحون هذا الجرح، ويضعون مبضع التشريح على جسده في الندوة التي أقيمت على هامش المعرض ضمن فعالياته الثقافية المصاحبة، وقد جاء النقاش ثريًا والآراء جريئة وواضحة من المشاركين، وهم يستجلون خطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها المعبر الحقيقي في عالم اليوم لطريقة تفكير الشعوب والأمم، ويمكن عبرها قياس طبيعة اهتمامها، ونمط تفكيرها، وسلوك حياتها اليومي.. وعلى ثراء ما طرح في تلك الندوة إلا أن بعض الخواطر عنّت لي في هذا السياق المتصل بخطاب الكراهية في مجتمعنا، غير حاصر له في وسائل التواصل الاجتماعي، على اعتبار أنها مجرد وسيلة، فلو لم تكن هناك هذه الوسائل العصرية، لأوجد الإنسان مثيلاً لها، كما هو الحال في الأمم السابقة، حين كان خطاب الكراهية ينتقل في الرسائل والقصائد والمشافهة والخطب وغيرها من الوسائل الأولية الأخرى..

وبالنظر إلى المجتمع السعودي في راهنه، تتبدى أمامى أربعة مغذيات أساسية لخطاب الكراهية في مفاصل المجتمع، بدت لي على الترتيب حسب درجة خطورتها وأثرها، منظورة في: عوامل عقدية متصلة بالتعصب الديني (المذهبي)، وعوامل اجتماعية متفرقة، وعوامل متصلة بالنشاط الرياضي، وبخاصة كرة القدم، وأخيرًا عوامل اقتصادية..

وعند أخذ كل عامل من هذه العوامل على حدة، يمكننا القول إن التعصّب المذهبي في مجتمعنا بلغ درجات كبيرة، ألغت معها بقية الآراء المذهبية الأخرى بشكل جعلت الناس يحتبرون ويكفرون بعضهم بعضا في مسائل عليها خلاف، وفيها نظر، وليس الاختلاف فيها أو حولها قديمًا وحديثًا في المجتمعات الأخرى موجبًا للقول بالكفر أو الفسوق أو المروق عن حوزة الدين، هذا الضرب من الخطاب الإقصائي تفتح له ساحة برحابة، ويقوده من لا يفقه في الدين إلى السطور التي وقعت له في خاطره، فاختصر الدين فيها، وألغى غيره إلغاء تامًا، وعلى إثر ذلك نما خطاب متشدد، تطور بشكل مستمر حتى أصبح خطابًا كارهًا للآخر المسلم، ولما كان هذا هو حاله مع «الآخر» المسلم المختلف معه عقديًا، فهو أشد كراهية لغيره من الملل والنحل الأخرى، من أصحاب الكتب السماوية الأخرى.. على أن هذا الخطاب نفسه يتشظى في «حملة الكراهية» والتشدد باتجاه داخلي وخارجي، فعلى المستوى الداخلي صار للدين «رجال» بمظهر ولباس معين، يختطفون الخطاب، ويستعلون على الناس، ويفرضون وجودهم عليهم في أي مكان كان، فتحول المجتمع إلى ساحة للمراقبة المستمرة، تلاشت معها أو اضمحلت الروح الإسلامية الحقة المتصلة بتعلق الذات بخالقها خوفًا ورجاءً، وليست ذات مراقبة «لرجل دين» فقط.. وعلى هذا نمو شعور بالكراهية المتبادلة، وفي أحسن الأحوال «قبول بالأمر الواقع» فقط.. أما على المستوى الخارجي، فقد عرف هذا الخطاب في نموها السرطاني ظهور تيارات متشددة.

أما فيما يتصل بالعوامل الاجتماعية، فالمجتمع السعودي يشهد اختلالاً واضحًا في بنية الأسرة، ودونكم حالات التفكك الأسري، والطلاق، والخلع، والعقوق، وغيرها من العلل المخيفة التي تظهرها المضابط الرسمية وسجلات المحاكم بأرقام يجب أن تكون محل الانتباه والدراسة والنظر لخطورة ما ستفضي إليه إن تعاملنا معها بالتغاضي والغفلة وعدم الاكتراث، فهذا التفكك لا شك أحد مغذيات خطاب الكراهية بين أفراد المجتمع، بما يورثه من ضغائن وأحقاد بين الناس، وما فشوه بهذه الصورة التي أشرنا إليه فلا غرو أن تتسع دائرة الخطاب الكاره للآخر.. وينضاف إلى ذلك أيضًا وجود الفوارق الطبقية في المجتمع، ليس بالمنظور الاقتصادي، ولكن بالمنظور الإثني، وما يتبع هذه الفوارق من مشاعر الاستعلاء والفوقية، سواء كان ذلك عبر السلوك المشاهد، أو اللفظ المشوه صراحة أو تلميحًا وإضمارًا، وهو أمر ينخر في جسد المجتمع، والمحصلة منه تماسك ظاهر هشّ، وضمائر مثقلة بالغبن والكراهية، تنتظر لحظتها لتنفجر وتشفي غلها وغليلها.. ومما يتصل بهذا الجانب أيضًا طبيعة العلاقة بين الفرد السعودي و«الآخر» الأجنبي المقيم في المملكة، وتلك قضية، أفضل أن أفرد لها مقالاً، لاستجلاء جوانبها باستفاضة، وتتبع آثارها بدقة.. ولها بلا شك أثرها في خطاب الكراهية داخل مجتمعنا بصورة لا يمكن إغفالها باي حال من الأحوال.

ويبرز التعصب الرياضي كذلك بوصفه من أكثر «الحقول» التي يعشب فيها خطاب الكراهية بشكل مخيف ومفزع، فلم يعد تشجيع كرة القدم لدينا فنًّا تزدان به المدرجات في مديح الفرق، ولإنشاد صنيع اللاعبين، بل أصبح ساحة للتنابز بالألقاب المضمرة بحمولة الكراهية والتعصب والعنصرية، وهو خطاب أكثر وضوحًا وجلاء، ولا يحتاج مني إلى أمثلة تضرب، ونماذج تساق، والنهاية من ذلك أننا في انتظار كارثة حقيقية في ميدان الرياضة السعودية إذا استمر هذا الاحتقان بشكله الحالي، وليس في ذلك أي مبالغة.. فما عظمت نار الحريق إلا عندما أغفل صاحبها وتغاضى عن «شرارة» برقت ولم يعرها انتباهًا.. وفي آخر سلّم العوامل المغذية لخطاب الكراهية تأتي العوامل الاقتصادية، وقد وضعتها في ذيل العوامل لكون أثرها لا يبدو واضحًا في مجتمعنا، فالذي أراه أن التفاوت الطبقي في مجتمعنا السعودي قائم في النصف الأعلى من الناحية المادية المتعلق بالبحث عن مزيد من الرفاهيات، وليس البحث عن القوت وأسباب الحياة الأساسية، فالدولة -أعزها الله- كفلت للمواطن السعودي حياة كريمة بمقوماتها الأساسية، والساحة مفتوحة لمن أراد أن ينمو ويتطور.. ومع هذا الاستقرار الاقتصادي، والبشارات التي حملتها رؤية المملكة 2030 إلا أنه ثمة خطاب من الكراهية باهت الأثر يطلقه البعض تجاه أصحاب الحظوة من المال، وعلى ضعف أثره لا يمكننا إغفاله أيضًا، ويستوجب أن يوضع في الحسبان حين المعالجة الشاملة لهذه الظاهرة المتنامية..

إن المعالجة لهذه الظاهرة مستوجبة لجهود متكاملة ومتضافرة يستنفر فيها كل قطاعات المجتمع، وتستنهض فيها كل الهمم بدءًا من الأسرة وانتهاء بالشارع العريض، فبغير ذلك ستكون المعالجات مجرد «مسكنات» لألم سيطول أثره إن لم يكن تداركه سريعًا..