-A +A
عبدالباقي يوسف *
تناهت نغمات الكمان عذبة شجية إلى مسمعه، أيقظتْ فيه مشاعر جمالية، وطاقة من نشوة غامرة وهو يجلس في محراب غرفته. بدأت المعزوفات الموسيقية تتوالى على سمعه بعذوبة كأنها قادمة من دوحة ربيع. بدأ يصغي إلى عذوبة تلك الألحان التي تعزفها أنامل أكثر مخلوقات الأرض قرباً إلى قلبه. كانت ابنته تعزف وهو يسمع كأنها لا تعزف على أوتار الكمان، بل تعزف على أوتار قلبه. هكذا يتزيّن الإيقاع الموسيقي ببعد جمالي أكثر رقة وعذوبة، وهو يتناغم بلمسات أنامل أقرب وأعذب وأحب وأغلى الناس وأكثرهم قيمة لديه. كل إنسان لديه ما يقدمه للآخر، ها هي ابنته تقدم إليه شيئاً مجدياً من مزايا طفولتها، أخذ يُدرك مع الإصغاء أن كل إنسان يملك نشوة يمكن أن يقدمها للآخر حتى لو كان في عمق صحراء قاحلة، وكل إنسان يملك آلاماً يمكن أن يقدّمها إلى الآخر حتى لو كان في عمق تلك الصحراء.

لا أحد لا يملك نشوة، ولا أحد لا يملك آلاماً، لكن عليك أن تكتشف كنوزك الثمينة، ثم تكتشف الآخر الذي ستمنحه شذاها، ثم تروّض نفسك على تذوق متعة العطاء وتروضها على تذوق متعة التلقي، فيروض نفسه على متعة العطاء ويروضك على متعة التلقي، فيمسي العطاء تلقياً، ويمسي التلقي عطاءً بالنسبة لكليكما في خط متواز حتى إذا أحس أحدكما بنقص في إحدى الخصلتين، أحس بأنه أعرج يمشي على قدم واحدة تلقاء عزيزه.


في ذروة هذا التناغم كما أنك داعبت محيا الكنز الثمين حتى أيقظته من عمق نومه فغسلت وجهه برحيق وردك، عليك أن تكون على جناح يقظة ولا تغفل طرفة رمش حتى لا تلمس خصلات شعر الغول النائم بجوار أخيه الكنز على ذات الفراش يتغطيان بذات الغطاء ويتوسدان ذات الوسادة.

تتواصل المقطوعات الموسيقية الأكثر ألقاً على مسمعه، ويتواصل في التأمل في أفق رحبة. هكذا سعى الإنسان ما بوسعه كي يروّض هذا الغول الهائج ويجعله أقل عنفاً، فكانت فكرة الآداب والفنون لتهذيب الغول لحظة استيقاظه، وفي مراحل متقدمة من التذوّق الأدبي والفني إلى أنسنته.

*روائي سوري