-A +A
عيسى الشاماني (الرياض)
I_ALSHAMANI@

يضع الدكتور إسماعيل سراج الدين، في كتابه «الثقافة ومواجهة الإرهاب» تساؤلات عدة حول التطرف والعنف الديني الذي ألمّ بالعالم العربي، وكيف يمكننا تحدي التيارات المتطرفة فكريا، وكيف نستطيع استعادة تراثنا الثقافي من براثن أولئك الذين يسعون إلى استغلاله ويحاولون تسخيره لأغراضهم السياسية الخاصة بهم.


يؤكد المؤلف في كتابه الصادر حديثا، أن العالم العربي يعاني من ظروف سياسية يصعب تخيل الأسوأ منها، خصوصا في ظل الانعزال الثقافي، والتحول إلى الدول الفاشلة ثم إلى الحروب الأهلية، وصولا إلى الأشكال الجديدة من الهمجية.

لكنه أيضاً يحذر من تعميم «مفردة العالم العربي» وإسقاطها على كل الدول العربية، إذ يؤكد أن كل دولة عربية لها تاريخها المنفرد الذي أدى إلى تدهورها، فالعالم العربي -شأنه في الواقع شأن العالم الإسلامي- بتنوع ملحوظ في مستويات التعليم، وتحصيل العلم والتنمية الاجتماعية، وفي شكل المؤسسات السياسية المنوط بها إدارة الحكم، وهذه الاختلافات يجب أن نتعامل معها بكل حذر وحيطة.

ويشير الكاتب إلى أن ظاهرة التطرف والعنف الديني منتشرة في كل البقاع، والإرهاب أصبح يتحدى بكل صفاقة بعض الحكومات القائمة التي لا تمتلك سوى شرعية محدودة، وأصبح الملايين من اللاجئين بلا مأوى، سواء داخل بلادهم أو بعد عبورهم حدود الدول المجاورة ليتواصل مسلسل الأزمات الإنسانية.

يؤكد الكاتب إلى أن الهوية تقوم بالنسبة للغالبية العظمى من العالم العربي على الثقافة، وبوجه محدد، على اللغة المشتركة، وهي الرؤية الثاقبة والأساسية لصانعي النهضة في القرن التاسع عشر على غرار جورجي زيدان، إذ أدركوا في الواقع أن الإسلام أدى دورا بارزا في المحتوى التاريخي للقومية العربية، ولكنهم وجدوا تناقضا بين المشروع القومي العربي الشامل والواقع الملموس للمشروع الإسلامي العثماني في العديد من الأمم والثقافات تحت المظلة الكبرى للإسلام، لكن في المشروع الخاص بهم أدركوا أن العرب شعب ذو هوية واضحة، حيث إنه ليس كل عربي يدين بالإسلام، وليس كل مسلم عربيا. يعود الكاتب إلى ذكر أبرز المشكلات التي يتقاسمها العالم العربي، أو يشتركون فيها إلى حد كبير، على سبيل المثال قضية المساواة بين الرجل والمرأة، معتبرا أن التقاليد المحلية عند بعض المجتمعات بترت إمكانات المرأة وقضت عليها، ثم تطرق إلى ظهور الشباب كقوة ثقافية في العالم العربي، إذ يعتبر أن هناك حالة جديدة من الفوران الشبابي تنتشر في كل مكان. ولقد ظهر التعبير السياسي للحركات الشبابية خلال ما يسمى بـ«ثورات الربيع العربي» التي سيطرت عليها القوى الدينية المنظمة على الكثير من تلك الثورات وأدت إلى الانقسامات في العديد من المجتمعات إلى فوضى وحروب أهلية، ما أدى إلى ظهور الأشكال الأكثر تطرفاً من الإرهاب الهمجي الذي طفا على السطح على أيدي (داعش) في العراق والشام.

هذه المحصلة يؤكد الكاتب أنها كانت نتيجة لمزيج من عدة تيارات تاريخية ومجمعية عريضة، ومنها الإفلاس الفكري للعديد من الأنظمة العربية، على مدى فترات طويلة من الحكم، وعودة ظهور الإسلام السياسي مرة أخرى، بعد أن استمر قمعه لمدة طويلة قبل الخطاب السياسي القومي والعلماني، ولكنه اكتسب زخما جديدا من خلال الثورة الإيرانية، والتمويل من جانب بعض الدول، وظهور حزب الله في لبنان أثناء الحرب الأهلية الطويلة، وهذه الأوضاع وغيرها بعد عودة «العرب الأفغان» الذين تحالفوا مع المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان، مما أدى إلى اعتلاء طالبان سدة الحكم هناك.

ويؤكد أن الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وما تبعه من فشل في إدارة الانقسامات العرقية والدينية الشديدة في ذلك المجتمع، بالإضافة إلى الحرب الطويلة التي شنتها أمريكا وحلفاؤها في أفغانستان وما صاحبها من أعمال القتل الممنهجة للمدنيين باستخدام الطائرات بدون طيار، أسهم في تأجيج مشاعر الظلم التي غذت الاستعداد النفسي لدى الأغلبية المسلمة لقبول مواقف أكثر تطرفاً، من شأنها استعادة القليل من احترام الذات والكرامة في مواجهة ما يرونه إهانة متواصلة لكرامتهم. ويعتقد الكاتب أن كل هذا أدى إلى بزوغ التعصب والتطرف، الذي يمثل نبذا لواقع متشابك ومعقد، واقع يتسم بالتعدد في مستوياته وهوياته، وهو محاولة لرفض المساواة في النوع والديانة والسعي لفرض الإرادة بالقوة، كما أنه يستمد قوته من الحمية الدينية ومن الهويات المحلية المجروحة لشعوب تشعر بالظلم من أجل حشد قواه ضد الآخرين، مثل العرب السنة في العراق في العقد الأخير. في الغالب، فإن التطرف هو موقف سياسي يرفض معتنقوه أي فرصة للحوار، كما يرفضون أي تلميح حول وجود قصور أو خطأ في فهمهم، ويذهبون في جدلهم إلى أبعد مدى ممكن، وكل مدرسة من مدارس الفكر السياسي لديها متطرفوها، ولكن المتطرفين من جميع الأطياف في نهاية الأمر يرفضون أي تسوية أو حل وسط مع الآخرين الذين لا يشاركونهم آراءهم. يقول الكاتب: إنه دائما ما يهددننا التطرف بخطر العودة إلى نظام حكم فاشي أو شمولي، ويمكن ملاحظة هذه الأعراض المتطرفة في ظهور الشعارات الساذجة والعبارات الطنانة حول تسيب المجتمع، وضياع الهدف فيه، وضرورة اتخاذ مواقف صارمة للتعامل مع هذا الوضع، وإظهار المتطرفين بوصفهم ينتمون إلى فئة الحق، بينما ينتمي الآخرون -كل الآخرين- إلى فئة الضلال!.

ويضيف: ظهور خطاب الكراهية ضد الأقليات في المجتمع، ورفض اعتبارهم جزءا من النظام الاجتماعي القومي، أو إنكار أنهم يشاركونهم هويتهم القومية، ومن ثم وصفهم بأنهم عملاء أجانب لا يستحقون التعاطف، حتى هذه اللحظة ما زال بالإمكان اعتبار ذلك كله لا يخرج عن كونه خطاب جماعة ما في المجتمع، ويمكن مقاومة ذلك الخطاب باستجابة فكرية فعالة ومناظرات واسعة النطاق في محافل عامة ملائمة. واعتبر أن من علامات الخطر عندما تسيطر تلك الجماعات على السلطة السياسية أو يحتل المتعاطفون مع أفكارهم مناصب مهمة مؤثرة، فيصبح الفكر المتطرف نوعاً من الآيديولوجية الصاعدة، ثم يترجم كل ذلك إلى العلامات والأعراض الأشد خطورة وفتكاً، مثل البدء في تمييز منهجي ضد الأقليات، واستبعاد كل من يعارض الآيديولوجية الجديدة، ويتصاعد الإرهاب المنهجي ضد المعارضين والمنشقين، وتهميش المؤسسات السياسية التي كان منوطا بها القيام بالضوابط والتوازنات، فعندئذ لا ننتظر سوى ظهور نظام شمولي يعتنق آيديولوجية متطرفة ويجرف المجتمع نحو هاوية من الجرائم النكراء، بل ربما إلى المجازر الجماعية.

*من أسرة تحرير «عكاظ»