-A +A
عبداللطيف الضويحي
تستنفر اللغات بطون معاجمها ومصادرها وعقول لغوييها، تستنجد بفصيح مفرداتها وعامية كلماتها كي تصمد وتصنع مصطلحات تواكب أنهارا تتدفق ليل نهار بملايين الأفكار ومئات آلاف المنتجات، فلا تجد سوى لغة الأرقام صامدة دون سائر لغات العالم، فلا تجد سوى لغة الأرقام لغةً واحدة تُجمع عليها الأمم والشعوب ويفهمها الجميع دونما مبالغات وبدلالة لفظية لا تحيد عن المعنى الذي يفهمه الإحصائي كما يفهمه التنموي والإعلامي والسياسي والاجتماعي دون زيادة أو نقصان.

على مدى الأيام القليلة الماضية بدأ يتساءل كثيرون من المهتمين بالشأن الاقتصادي والتنموي المحلي عما إذا كانت الهيئة العامة للإحصاء بالمملكة بدأت بالفعل تؤسس لثقافة جديدة ترشّد القرارات الاقتصادية والسياسية والتنموية والاجتماعية وعلى صعيد الثقافة الإدارية، فضلا عن اللغة الإعلامية التي ستسود محل الكتابة الإنشائية المحشوة بالمبالغات والمتوارثة باستنساخ ذاتها وأمام بحوث علمية تعج بالمتناقضات نتيجة تضارب مصادرها ومرجعيات أرقامها فضلا عن عدم موثوقية بعضها واختلاف منهجيات إحصاءاتها وبروز الحاجة لمنبع موثوق وموحد ومواكب للمستجدات الإحصائية والمعالجات الرقمية بما يخدم هؤلاء الباحثين والأكاديميين وأولئك الإعلاميين ويرشِّد القرارات السياسية والإدارية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية، في الوقت الذي ينضج معه الرأي العام حول العديد من القضايا الحيوية والخطرة.


على مدى ثلاثة أيام وخلال انعقاد المنتدى الإحصائي الأول لدول مجلس التعاون الخليجي في الرياض، شارك وحضر العديد من القياديين وصناع القرارات والإحصائيين والمحللين والتنمويين والإعلاميين وصناع القرارات على اختلاف مواقعهم، حيث نظمت الهيئة العامة للإحصاء في المملكة والمركز الإحصائي لدول الخليج العربية هذا المنتدى تحت شعار «تعزيز الشراكات الإحصائية لدعم السياسات الاقتصادية والتنمية المستدامة في دول المجلس».

في رحلة التغيرات والتحولات التي تشهدها العديد من دول المنطقة، الجميع يتحدث عن الأهداف كغايات نهائية لتلك التحولات والتغيرات، لكن القلة القليلة هي التي تعرف من أين تبدأ تلك التحولات والتغيرات. بعضنا يرى البدايات الصحيحة يجب أن تكون من الاقتصاد والبعض يراها من التعليم فيما يراها البعض من السياسة العليا، البعض يرى أن الأولوية هي تحقيق الأمن والسلم فيما يرى آخرون مكافحة الفقر والقضاء على البطالة هي البداية الصحيحة لأي سياسة إصلاحية، ويردف البعض بالقول إن تنويع مصادر الطاقة والدخول إلى الثورة الصناعية الرابعة هو الأساس للقضاء على الكثير من المخاطر وفتح المزيد من الفرص أمام الأجيال القادمة، والحقيقة أن كل هذه وتلك عوامل بالغة الأهمية لأي بلد ينشد الاستقرار والتقدم في الحاضر والمستقبل، لكن كل هذه المنطلقات بحاجة لبنية تحتية ومن أهم البُنى التحتية هو توفير الإحصاءات الموحدة والدقيقة والموثوقة والمواكبة والشاملة لكل القطاعات، بحيث تستفيد منها مؤسسات القطاع العام ومؤسسات الخاص والأكاديميون والباحثون والإعلاميون فضلا عن صناع القرارات وراسمي السياسات والمهتمين.

لقد سادت ثقافتنا العربية خلال فترات طويلة لغة شعرية شفهية تحولت مع اتساع رقعة التعليم وزيادة استخدام التقنية إلى ذات اللغة المكررة والمستنسخة في كثير من الحالات والتي لا تستقيم مع لغة الدقة واللغة الاحترافية العصرية. هذا لا يعيب اللغة الشعرية وإبداعاتها وتجليات مبدعيها، حيث اشتهر العرب والثقافة العربية بالشاعرية واللغة الشعرية والأدبية منذ الأزل، وهي لغة جميلة في مجال الأدب والشعر والقصة والأعمال الروائية بدون أدنى شك، لكن هذه اللغة لا يمكنها أن تواكب الكثير من المعطيات العصرية ليس قصورا باللغة العربية، إنما هو قصور بأساليب التعليم والتربية التي لم تحافظ على المستوى العلمي والرياضيات كما أبرز وأبدع علماء العرب في الرياضيات والعلوم في عصر النهضة العربية.

إن ما تقوم به الهيئة العامة للإحصاءات الوطنية يمثل البداية الصحيحة لكل التحولات والتغيرات الإيجابية التي تنتظرها المملكة والتي يجب أن تمثل البنية التحتية لكل المنطلقات التنموية وعلى شتى الصعد الرأسية والأفقية.

كما أن من المهم الإشارة هنا إلى أن الكثير من المصطلحات الإحصائية في التنمية لا تزال تمثل طلاسم للعديد من الممارسين والمتابعين وتتطلب وقفة من التفكير وتفكيكها وتسهيل استخدامها، مثل مؤشرات التنمية والبطالة والفقر والطلاق والجريمة والفساد وغيرها من المؤشرات. ناهيك عن الكثير من المصطلحات التي تحملها الميزانية السنوية للدولة وللشركات والوزارات.

abdulatifalduwaihi@gmail.com