-A +A
محمد أحمد الحساني
قيل لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وقد بلغه الكبر واشتعل الرأس شيباً: ماذا بقي لك من لذائذ الدنيا ومتعتها، فرد على سائله قائلاً: لم يبق لي منها إلا محادثة الرجال! وكان الناس قبل ثورة الاتصالات وانتشار أجهزة التواصل المتعددة الأسماء والمهام، كانوا إذا ما التقوا في مجلس أو مقهى أو مناسبة تبادلوا أطراف الحديث وسَرُّوا عن أنفسهم به، واستعانوا بذلك على ضغط الحياة، وكان المدعو لمناسبة تجول عيناه أول ما يدخل لمكان المناسبة على الحاضرين لعله يجد من يعرفه فيجلس معه ويتبادلان الأحاديث والذكريات حتى يحين العشاء أو الغداء، فإن لم يجد أحدا يعرفه حاول فتح حديث حول الطقس «ومطرة أمس» وغبار الأسبوع الماضي مع من يجاوره في مجلسه بالمكان، فإن وجده مثله يبحث عن رفيق يؤانسه وحدته قضيا ساعات الانتظار سعيدين، أما إن وجد جاره «لا يصد ولا يرد» وليس لديه رغبة في الحديث لأنه مكتئب أو من النوع الذي لا يشعر بالارتياح للتعرف على الآخرين، فإن ذلك المدعو يمكث برهة ثم يلوذ بالفرار قبل أن يقول الداعي: هيا تفضلوا حياكم الله!

أما بعد ثورة الاتصالات واقتناء كل واحد منا جهاز هاتف ذكي حسب الوصف التجاري للهواتف المحمولة المتطورة فإن ما يسمى بأجهزة التواصل ما هي إلا أجهزة «تقاطع» في حقيقة أمرها، لأنه لا معنى للتواصل مع الأباعد والغرباء في الوقت الذي تجلس فيه العائلة الواحدة المكونة من أب وأم وأولاد وبنات، وفي يد كل واحد منهم جهاز ينقر في صفحة فيضحك مرة ويصيح مرة أخرى ويقطب حاجبه في المرة الثالثة، وتجمع بينهم غرفة واحدة ولكن كأنهم «في فلك يسبحون»، وقد يستمر مجلسهم دون أن يحصل بينهم حديث وتواصل، وإن حصل شيء من ذلك فكلمة واحدة ورد لغطائها ثم عودة إلى شاشة الجهاز في تقاطع اجتماعي رهيب تدفع ثمنه الأسر كلها علمت بذلك أم لم تعلم!.


أما بالنسبة للمجالس العامة فإن وسائل التقاطع قد عملت عملها في بتر العلاقات بين الجلساء وفترت الصّلات، لأن الحاضرين مشتغلون بنقر أجهزتهم منفصلون عما حولهم، فإذا كان من بين الحضور من لا يجيد التعامل مع وسائل التقاطع أو يرى أن للمجالس آدابا منها حسن الاستماع والمشاركة، فإنه قد يجد نفسه وحيداً يبحث عمن يؤانسه وقد لا يجد فيلتزم الصمت حتى نهاية المناسبة، وقد ينصرف من ذلك المجلس عازماً ألا يعود إليه لأنه ليس لديه استعداد لمجالسة الجماد!.