-A +A
نجيب يماني
إنّ المأمول المنتظر من أيّ شخص؛ رجلاً كان أو امرأة، من الذين رفعتهم الثقة الكريمة منزلة سَنيّة، وبوّأتهم مقعدًا في مجلس الشّورى، أن يكون كفؤًا لهذه الثقة، جديرًا بهذا المقعد، قمينًا بما يناط به من مسؤولية في النقاش، وطرح للآراء المثرية، بعيدًا عن شطط الانتماءات الضيقة، والولاءات المشبوهة، وتمجيد الذوات بحسابات مفضوحة النوايا.. هذا الذي نأمله من عضو في مجلس الشّورى، أن يكون واسع الاطلاع، بعيد النظر، عميق الفكرة، حديد العقل، منفتح البصيرة، سمحًا حين يوافق على رأي ويسانده، وقورًا حين يجادل بالحجّة في ما يرى خلاف ما يوافق رأيه ويجري مجرى مزاجه ورؤيته، والغاية والمحصلة في النهاية مصلحة الوطن، وخير مواطنيه، ومعاونة ولي الأمر والمسؤول في طرح الآراء المستفاد منها في كلّ مجال من المجالات، فيها فريضة ملزمة تجعل من المستشار مؤتمنا.

هذه هي الصورة النموذج لعضو مجلس الشورى، وأحسب أنّها القواعد الأساسية التي استندت إليها القيادة -حفظها الله- في تمكين الأعضاء من النقاش وطرح الآراء بكل أريحية وحرية للخروج بما يفيد وينفع الناس. ومن المؤسف حقًّا أن يهزّ أحد أعضاء هذا المجلس تلك الصورة البهية في افتراضها الزّاهي، ليقدم نمطًا من التفكير، وضربًا من طرح الآراء، أقلّ ما يوصف به أنّه يخالف الأسس المركزية والضرورية في ماهية عضو الشورى، وأعني بذلك الدكتور عبدالرحمن باجودة، في ما ذهب إليه بمهاجمة ثلاثة من زملائه أعضاء المجلس جرّاء مطالبتهم وتوصيتهم بدمج «هيئة الأمر بالمعروف» في وزارة الشؤون الإسلامية.. وليت باجودة استقلّ برأيه في طرح رؤيته المناوئة لهذه المطالبة والتوصية، وتقديم حججه المنطقية، كفاء عضويته في مجلس الشورى، ولكنه لم يجد بين خلق الله جميعًا شخصًا يستند إليه في حجته غير الشيخ عبدالمحسن العباد، بكلّ ما تحيط بهذه الشخصية من مواقف ملتبسة، وما بيانه الأخير حول تعيين الدكتور دلال نمنقاني عميدة لكلية الطب بجامعة الطائف؛ إلا واحد من أدلة كثيرة على تشدده في الرأي، بما يجعل منه -افتراضًا- آخر شخص يعتمد عليه عضوا في مجلس الشورى في مقام الاستشهاد والاستناد والحجّة الدامغة.


نعم؛ إنه لأمر يدعو للعجب، أن يجد باجودة في نموذج «العباد» ما يبحث عنه لدحض مطلب زملائه الثلاثة، ولا يجد من حجج المنطق ودوامغ الأسباب سببًا سوى أنّ مثل هذا المطلب والتوصية من «المطامع الغربية»، وهي «شنشنة» نعرف لحنها المعزوف من «فئة» بلوناها كل البلاء، وخبرنا طويتها، وحفظنا سمت قائليها، ونعرف أجندتهم معرفة وثيقة.

كان حريًا بـ«باجودة» أن يناقش مناقشة عالم عارف، لا أن يذهب إلى «تفتيش نوايا» زملائه، فإنّما هي توصية مطروحة للنقاش، ولو أنّه نظر مجرد نظرة لسيرة وعطاء مقدمي هذه التوصية، لأدرك جيدًا أنها توصية مستندة إلى معرفة، ومتكئة على علم متخصص، فسيرهم المبثوثة في موقع المجلس تشهد لهم بالعلم والفهم والإخلاص، ولأدرك أن توصيتهم استكلمت جوانب النّظر من النواحي التخصصية من حيث تنظيم العمل، والإسناد إلى جهة اختصاص محددة، ومن حيث المردود النفسي لماهية «الهيئة» قبل توصية الدّمج وبعدها، ومن حيث البعد الأمني المترتب على ذلك في مفاصل المجتمع.. كان من المأمول والمنتظر من «باجودة» أن «يناقش» بعقل مفتوح، لا أن «يتهم» جزافًا ولا سند له إلا «العباد».. ويجد المعونة من رئيس المجلس بإفساح المجال له لـ«يفرغ» ما بجوفه، ويدعي باطلاً أن المجتمع بدأ يعاني من غياب الهيئة وهو لم يحدث أبداً. إنها توصية كريمة تنم عن إخلاص لجهاز الهيئة من حيث إعادة تنظيمه وإسناده إلى وزارة هامة استطاعت أن تلجم الكثير من شطط الدعاة وتنظم خطب المساجد ومراقبة أدائها، وهذا الدمج لا يقل أهمية عن دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات في وزارة المعارف في قرار تاريخي أعاد الأمور إلى نصابها وصحح مسار العملية التعليمية، ولا يقل أهمية عن قرار إلغاء العبودية ووقف تجارة الرقيق في عهد الملك فيصل رحمه الله.

شكرًا لهذه القضية بكل أبعادها، فما أحوجنا إلى «غربال» دقيق يفرز المواقف فرزًا لا يحتمل المواقف المهزوزة، فرؤية المملكة 2030 المستشرفة للمستقبل لا تحتمل «تروسًا» تعمل في الاتجاه المعاكس.