-A +A
عبداللطيف الضويحي
ليس صحيحا أن كل الناجحين يبدأون من الرصيف، وليس صحيحا أن كل من يفشلون ينتهون إلى الرصيف، إنما الرصيف ورشة متنقلة لإعادة اكتشاف القناعات دون معرفة حتمية بالخطوة التالية.

الرصيف هو كتف الشارع، لكنه قلب المدينة، وأقدام الباحثين عن الفرصة وأرواح الهاربين من الإحباط وعقول المتربصين بالفرصة وهو ملازمة مناكب الأسئلة بأكتاف الإجابات. الرصيف هو الممشى الذي يسلكه العابرون من الشارع وإليه وهو ملتقى الغادين والقادمين وما بينهما. يسلكه المتعبون بهدف ويلوذ إليه الباحثون عن قتل الفراغ والتسلية ويتسلل إليه الضائعون.


تتفاوت سرعة الرصيف وأنفاس مرتاديه حسب الازدحام والوقت والمكان، فمن مزدحم جداً في أماكن وأوقات إلى متوسط الزحام في أوقات وأماكن ومن بلد إلى بلد ومن مدينة إلى قرية ومن حي إلى حي ومن شارع إلى شارع.

الرصيف عنوان فنون المجتمع وجنونه، في الرصيف تولد الموضات وصرخات الموضة، هو طفرة تقليعات الشباب وهو تشققات أقدام العجزة وكبار السن وعجلات المقعدين، تصدح في الرصيف وعلى الرصيف أصوات البائعين ومواويل الفنانين المغمورين يبثون أشجانهم ويستدرون ذوق العابرين والغرباء وأنغام المعزوفات لآلات الموسيقى يعزفها الباحثون عن موطئ قدم في صناعة الجمهور والمال، يختبرون مستقبلهم ويجرون تجاربهم الأولى وربما العاشرة.

على الرصيف، يسرد المهمومون معاناتهم لمن يصغي لهم والطامحون يحدقون ويحثون الخطى. الرصيف هو غرفة احتراق أحزان المجتمع وأفراحه، والرصيف هو منصة أحزان المجتمع وهو مطبخ الأشجان والوجدانيات في كل مدن.

والرصيف هو غرفة احتراق التطلعات والانكسارات، وهو مصنع الثقافات الشعبية والموضة وتقليعات الشباب ومنصة انتشارها وهو منصة الثقافات الشعبية. والرصيف حالات هروب من كل شيء وإلى كل شيء. وهو اكتظاظ أقدام اليائسين بأقدام المهووسين بالتغيير، والرصيف هو مساواة الأكتاف بالأكتاف والأقدام بالأقدام يسقط في الرصيف كل التمايز. الرصيف يجمع كل المتناقضات. ويجمع الرصيف كل المتناقضات والمتناقضين، حتى اللصوص والمحامين والبائعين والمشترين، المتسكعين والمنهكين، الجهلة والمتعلمين يجمعهم الرصيف.

لكن الرصيف يأخذ مفهوما واسعا في التعبير المجازي يتجاوز بكثير التعبير المتعارف عليه لكتف الشارع ليعبر عن رصيف الحياة ورصيف المجتمع. ليشمل حالة اللا انتماء واللا ارتباط واللا التزام واللا قيود، إيقاع حياة الرصيف سريعة، فهو ليس عنوانا ثابتا لأحد. فحتى المشردين عندما يختارون أن يستوطنوا الرصيف ويقيمون في الرصيف وعليه، هم يفعلون ذلك هروبا من تعقيدات الحياة وليس بالضرورة أن ظروفهم المادية كانت سببا بذلك، فهم لا يريدون أن يرتبطوا بعنوان، فلا تصلهم المطالبات الحكومية وغير ولا تصلهم فواتير كهرباء أو ماء أو هاتف.

المشردون يختارون حياة التقشف والتجرد من كل ما يمت بصلة للصخب والارتباط والالتزام، بالمناسبة هناك الكثير من المشردين اختاروا أن يكونوا مشردين ليس لأنهم فقراء أو معدمين ماديا، فبعضهم يعملون ولديهم دخل مادي لكنهم زاهدون بكل التعقيدات العصرية التي تصادر منهم حريتهم وأحيانا إنسانيتهم.

الرصيف يأخذ مفهوما واسعا في التعبير المجازي يتجاوز بكثير التعبير المتعارف عليه لكتف الشارع ليشمل رصيف الحياة ورصيف المجتمع.

أعود لهدفي من هذا المقال ولعنوان المقال والذي تعمدت أن أقدم له بهذه المقدمة الطويلة نوعا ما، لكي أصل إلى أننا بحاجة لصناعة ثقافة الرصيف والتي تغيب عن أغلب مدننا وفي أحياء تلك المدن. فمدينة مثل مدينة الرياض بحاجة إلى استنطاق الأرصفة وثقافة الرصيف وحياة الرصيف.

نريد منتجات منوعة تنعش أحياء المدن الكبيرة والمتوسطة والصغرى من خلال منتجات ثقافة الأرصفة لتشتمل على الثقافات المهنية والفن والإبداع على اختلاف الأحياء. من المهم عدم استنساخ ثقافة واحدة لكل الأرصفة. من المنتجات المهمة للأرصفة ثقافة الحركات الرياضية البهلوانية الفردية. من المهم إنعاش ثقافة المشي لاعتبارات رياضية وثقافية. إذا كانت تلك الثقافات موجودة ومتوفرة فلها الأولوية في كل مدينة وفي كل حي، وإذا لم تكن ثقافة الرصيف موجودة ومتوفرة في المدينة أو في الحي، يصار إلى إنتاجها وصناعتها وإحيائها. لا نريد أن يقتصر دور هذه المنتجات على الأعياد والمناسبات فقط، إنما نريدها منتجات ممتدة لأهل الحي وسكانه سواء كانوا مواطنين أو غير مواطنين.

إن استنطاق ثقافة الرصيف وإحياءها وبعثها ليس ابتداعا لكنه ضرورة ثقافية وحياتية وإنسانية وصحية وفنية ورياضية واقتصادية.

مطلوب من هيئة الثقافة وهيئة الترفيه وهيئة الرياضة والعديد من المؤسسات أن تصل إلى منتجات تعكس ثقافات الأحياء تعكسها الأرصفة، لأن الأرصفة هي نبض المجتمعات.

الرصيف هو أقصر الطرق إلى البساطة والحياة التلقائية والحياة الطبيعية للإنسان.

abdulatifalduwaihi@gmail.com