-A +A
محمد سالم سرور الصبان
في ظل مجتمعنا واقتصادنا الريعي طوال العقود الماضية، لم تنتشر لدينا ثقافة الالتزام بمبادئ الأهداف الرقمية والزمنية المحددة، والتي بموجبها يتحقق تنفيذ مختلف المشاريع وفق جداول زمنية واضحة تتبعها مساءلة في حالة خرقها وعدم الجدية في التطبيق. وعلى العكس من ذلك فإن ثقافة «ما لم يتم تنفيذه غدا، يتم بعد غد» كانت هي السائدة في ظل الفوائض النفطية الضخمة التي مرت عليها بلادنا، ورغد العيش الذي كان يعيشه الكثير منا.

وحيث إن المشاريع الحكومية كانت محور «عقد القران» بين الفساد والمشاريع، فقد كان التفسير الذي يعطى لتأخير تسليم هذه المشاريع أو الأخطاء التي تظهر في التنفيذ، هو «إنه كان خارجا عن الإرادة».


وما ظهور العدد الكبير جدا من المشاريع المتعثرة إلا انعكاس لغياب المساءلة والحساب من جهة وعدم وجود تواريخ محددة للاستلام والتسليم، ناهيك عن عدم وجود متابعة منتظمة من الجهات المختصة بهذه المشاريع، والتأخير المصاحب في دفع مستحقات المنفذين للمشاريع في أوانها، وقد وعدنا الأمير محمد بن سلمان في لقائنا معه بانتظام دفعات المتعاملين مع الحكومة، إضافة إلى توسيع دائرتهم وعدم الاقتصار على عدد محدود منهم.

لكن الوضع كان لا بد وأن يتغير مع تغير أوضاعنا الاقتصادية، والانخفاض الكبير الذي لحق بأسعار موردنا الأساسي وهو النفط، مما حدا بنا إلى إحداث صدمة اقتصادية قوامها التقشف وإيقاف نزيف الهدر المتبع سابقا، وتتبع الفساد والمفسدين أينما كانوا، واضعين في أذهاننا أن هذا هو العلاج الناجع الوحيد الذي علينا تبنيه. ورأينا أن ثقافة الأهداف الرقمية والزمنية قد بدأت تشق طريقها في كل مناحي تنميتنا الاقتصادية وبرامجها.

وهذه الثقافة وإن بدأت - على استحياء في مراحل سابقة - إلا أنه لم يُكتب لها الصمود. وما زلت أذكر مشروعا مهما لأمانة مدينة ما، وضعت أمامه لوحة كبيرة تبين بدقة كم الزمن المتبقي للانتهاء من المشروع: بالأيام والساعات والدقائق والثواني. وفرحنا جميعا بذلك، إلا أننا وبعد فترة من بدء التنفيذ لاحظنا أنه تم سحب هذه اللوحة، ففسرنا بأنها قد سرقت، وأنه سيتم وضع أخرى مكانها وانتظرنا شهورا، والمشروع لم ينته ولا تمت إعادة اللوحة، فعرفنا أنها لم تكن سرقة للوحة بقدر ما هي تأخر مزمن في التنفيذ، وأعتقد أن المشروع لم ينته إلى الآن وربما أدرج مع بقية المشاريع المتعثرة. وأعتقد أن مرور هذه المشاريع المتعثرة دون مساءلة، «وعفا الله عما سلف»، سيكون إيذانا باستمرار سوء الأداء والفساد.

والفساد هنا ليس بالضرورة فسادا ماليا بل وأيضا الإداري، والإهمال والبيروقراطية وجميعها قد أعاقت مسيرتنا وتفكيرنا طوال الفترات الماضية.

وتمر أمام أعيننا رؤية 2030 والتي ترسم خريطة طريق لمستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي بأهداف رقمية وزمنية افتقدناها، بل لم نكن لنتعامل معها بجدية في الماضي. وأصبحت المساءلة في إطار الرؤية تعتمد وتُقاس بما حدد من أهداف رقمية وماذا تحقق في كل فترة منها، ومن المسؤول عن أي تأخير في التنفيذ والتسليم، وأصبحت حزمة متكاملة لا تتجزأ. فمشاريع تحسين جودة التعليم هي انطلاقة لتوفير عمالة ماهرة ومدربة ومبتكرة ومبدعة. وتشغيل المطارات والقطارات المعطلة يحقق هدف الـ 30 مليون حاج ومعتمر كهدف يجب ان يتحقق بحلول عام 2030.. وهكذا.

وأصبح المسؤولون من وزراء وغيرهم بعد كل مساءلة لهم في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، يترقبون أوامر ملكية باستبدالهم، فالوطن والحمد لله مليء بالقيادات والكفاءات في كل المجالات. وأصبح المسؤول الحكومي خلية نحل لا تهدأ أو هكذا أتصورهم في عملهم في مزرعة الدوائر الحكومية. فليس لدينا وقت الرفاهية الكافي للتمهل في تطبيق برامج الرؤية أو ارتكاب أخطاء هنا أو هناك. والمواطن يود أن ترى هذه البرامج النور اليوم وليس غدا، وبالتالي فإنه ومن منطلق وطني يحرص بموجبه على هذا الوطن الغالي ومستقبله هو يستعد ومتقبل انتظار الأعوام القادمة لتبدأ بشائر ونتائج ما تحقق من خطة التحول الوطني الموعودين بها بحلول عام 2020.

وكان لي كما كان لغيري فرصة أخيرا للاطلاع على برامج قياس الأداء لبعض الوزارات الحكومية والتي كانت مفصلة وسهلة المتابعة، يتبين من خلالها المواطن العادي ما يجب أن يتحقق في كل مرحلة، وما هي العوائق التي قد تواجهها هذه الجهة أو تلك وسبل التغلب عليها. واستبشرت خيرا بها، وإن كان التسليم لهذه البرامج والمشاريع هو الفصل والحكم على إجمالي حسن أو سوء الأداء.

وأختتم بأن أقول إن اعتماد ثقافة الأهداف الرقمية والزمنية المحددة سهل من التعامل مع رؤيتنا 2030 من حيث المتابعة المرحلية والمراقبة والمساءلة، وأيضا سهل للمواطن أن يعرف ما تم إنجازه وما لم يتم ومن المسؤول. وكل الدول المتقدمة تتبنى هذه الثقافة بتقديس كبير ولا تقبل أعذارا واهية للتأجيل والمماطلة، أو أن تكون مدخلا للفساد الذي عانينا منه طويلا. وكلنا مع الوطن في السراء والضراء.

(*) مستشار اقتصادي ونفطي