-A +A
عبدالعزيز معتوق حسنين
شيئا فشيئا أصبح المريض حائرا بين تحمله لآلام المرض ومجازفته بالذهاب إلى عيادة الطبيب أو إلى المستشفيات التي كثير منها فقدت أبسط مقومات وآداب المهنة، وفي غياب الرقابة المسؤولة الأمينة إلى جانب غياب الضمير لدى كثير من الأطباء تفاقمت الأخطاء حتى تحولت إلى إهمال جسيم يفتك بأعز ما نملك وهو صحتنا، وبدلا من تعميق شعار «ثروتك صحتك» وترويجه بين المواطنين أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى تدشين مقولة «اختبر طبيبك أولا» ثم «احذر طبيبا بالجملة». إن الأمثلة كثيرة ومحبطة بحيث يصعب سردها ولا نستطيع أن نصفها بالخطأ فحسب، بل لابد أن نعترف بأنها في الغالب إهمال جسيم وجهل خال من أبسط أصول المهنة وآدابها، لأن معظم هذه الحالات التي تتكشف لنا ما كانت لتحدث لو أن هذا الطبيب أو ذاك تلقى تعليما جيدا وتدريبا يليق بممارسة هذه المهنة الإنسانية الرفيعة. ولو أنه أيضا تعلم أن الطب أخلاق وأمانة ومسؤولية ومهنة قبل أن تكون مجرد وظيفة. أذكر أنني قبل 47 عاما في مرحلة دراستي للطب في جامعة لندن وصفت لأستاذي بأن المريض حالة. فورا طلب مني أستاذي مغادرة المستشفى لأنني لم أحترم المريض واعتبرته حالة مرض. فكيف بأب وأم ذهبا بفرحتهما الوحيدة إلى الطبيب لإجراء عملية «ختان» بسيطة، فيعودان بطفل مشوه فاقد الذكورة للأبد، وفي مثال آخر يعود مفقود الروح ليصبح في عداد الأموات. ثم ماذا عن آخر لم يجد العناية المرجوة حين استسلم في رضا وأمان لتلقي العلاج النافع لعلته فإذا به يزداد ألما وصراخا وعويلا. وماذا عن زوجة شابة تحلم بالأمومة وفرحة الإنجاب يذهب حلمها أدراج الرياح نتيجة إهمال طبي أفسد عليها الأمل للأبد. ولعل هذه بعض من الكثير ما نسمع عن وقائع الإهمال. وإنني أتوقف مرة أخرى أمام حس متبلد أصاب الطب وكثيرا من الأطباء في مجتمعنا هذا. العبارات المقترحة ليست من باب الاستظراف أو التسلية، لكنها أصبحت ضرورة ملحة في ظل تردي الأخلاق وتدهورها في وسط لا نرتضي له هذه الحال أبدا. فالطب والأطباء نعمة من الله ويجب علينا أن ننهض بهم وبذوقهم العام، وأن يعلم كل دارس للطب وكل ممارس له أن اختياره لهذه المهنة لم يكن للتربح أو للتباهي أو للحصول على لقب ما، وإنما هو اختيار للتضحية والبذل والعطاء من أجل راحة مريض وإزالة أسباب شكواه. ومن هنا فإنني أطالب أيضا بضرورة تعميق دراسة المادة السلوكية في كليات الطب منذ السنة الأولى لحث الدارس على الأخلاقيات المهنية وأنه جاء ليكون متطوعا لا تاجر أعضاء وأجساد. وأنه ليس مستثمرا من أمراض الناس وآلامهم.

وأطالب وزارة الصحة بتكثيف جهودها من خلال لجنة آداب لمهنة الطب، للتصدي لمثل هذه الحالات التي انتشرت وتفاقمت في مجتمعنا وأقترح أن تجري الوزارة اختبارات للقبول بها في لجنة القيد وأن يشمل الاختبار إلى جانب العلوم الطبية اختبارا سلوكيا أيضا وتستطيع اللجنة تقنين ذلك والوقوف على خطة سليمة، تحفظ الطب والأطباء من علل النفس البشرية وآثامها وتحفظهم أيضا من الجهل بأصول المهنة وتاريخها العريق وتحسينا لأدائهم الإنساني قبل الجسدي. لتظل مهنة الطب صحيحة سليمة ولتظل مهنة الإنسانية شرفا لكل من يعمل بها ولا تتحول من مهنة إلى وظيفة. فالطب مهنة لا وظيفة. والله من وراء القصد.


للتواصل: (( فاكس 0126721108 ))