من الإعلانات التجارية لبضائع باعشن المستوردة.
من الإعلانات التجارية لبضائع باعشن المستوردة.
المرحوم محمد صالح بن علي عبدالله باعشن.
المرحوم محمد صالح بن علي عبدالله باعشن.
أحمد محمد صالح علي عبدالله باعشن.
أحمد محمد صالح علي عبدالله باعشن.
بيت باعشن في مهرجان جدة التاريخية.
بيت باعشن في مهرجان جدة التاريخية.
د. عبدالله المدني
د. عبدالله المدني
-A +A
قراءة: د. عبدالله المدني *
ربما كان اسم هذه العائلة التجارية العريقة هو أكثر اسم يتردد على ألسنة الناس لارتباطه بالمشروب اليومي الأكثر شعبية في الخليج والجزيرة العربية، ألا وهو الشاي. غير أن الكثيرين، خارج الحجاز، قد لا يعرفون شيئا عن تاريخها وسيرة عميدها المؤسس وكفاحها الممتد عبر قرنين من الزمان. مثلما يجهلون أن الشاي من علامتي «الربيع» و«أبوجبل» مجرد سلعة واحدة ضمن عشرات السلع التي استحوذت العائلة على وكالاتها الحصرية في المملكة العربية السعودية مثل: «الجراك» المستخدم في الشيشة الحجازية، الكبريت ماركة الكورة، سمن عال العال ماركة البقرة، الصابون ماركة أبوعنزا، مكعبات السكر من ماركة النحلة، وغيرها. الحديث فيما يلي من أسطر هو عن سيرة الرجل العصامي «محمد صالح باعشن» عميد أسرة باعشن الكبيرة، وأحد كبار أعيان جدة وتجارها المرموقين منذ زمن الأتراك. جده هو عبدالله باعشن، الرجل الوقور صاحب العلم والمعرفة والدين، الذي هاجر، مثل غيره من أبناء حضرموت المعروفين بحب التنقل والترحال، من مسقط رأسه ومزارع والده في قرية رباط آل باعشن بوادي دوعن في حضرموت وهو في سن الـ10 متجها أولا إلى ميناء الليث ثم إلى ميناء جدة.

في جدة استثمر الرجل ما وهبه الله من فطنة وحكمة ورجاحة عقل في العمل التجاري، مركزا جهوده على استيراد وبيع الحبوب والبهارات والمنسوجات القطنية، ثم ما لبث أن اتجه إلى القطاع العقاري فصار يبيع ويشتري البيوت، ولا سيما في محلتي «المظلوم» و«الشام»، الأمر الذي زادت معه ثروته.


خطوته التالية تمثلت في ذهابه إلى مصر، حيث تعرف فيها على مجموعة من كبار تجارها وأيضا على من كان يقيم بها من تجار حضرموت، وعقد معهم صفقات تجارية لتوريد مجموعة متنوعة من السلع. وكانت لخطوته هذه مردود إيجابي كبير على ثروته، بدليل أنه تمكن بعدها من امتلاك سفن خاصة به من تلك التي راحت تجوب البحار والمحيطات وصولا إلى الهند والخليج والعراق من أجل التجارة.

طبقا لما ورد في تحقيق عن عائلة باعشن في المجلة العربية (12/ 12/ 2015)، فإن عبدالله باعشن حصل من الدولة العثمانية على قطعة أرض بجدة فبنى عليها عام 1834 منزلا ذا تصميم وبناء متميز، الأمر الذي جعل والي مدينة جدة العثماني يطلب من ابنه «علي عبدالله باعشن» أن يقيم به. ولهذا قام الأخير ببناء منزل آخر لسكن العائلة عام 1844 وهو المنزل المعروف حاليا بـ«بيت الطويل».

في 1856، صار علي باعشن شيخا لتجار جدة، لكنه كان قد تقدم في العمر مما جعله يستعين بجهود محمد صالح وعبدالله وعبدالرحمن في إدارة تجارة وأملاك العائلة إلى حين تاريخ وفاته، حيث تولى «محمد صالح عبدالله باعشن» إكمال المسيرة.

ولد محمد صالح باعشن بمدينة جدة عام 1874، وفي سن الـ30 كف بصره لكن ذلك لم يمنعه من السعي في طلب العلم والرزق معتمدا على ما عوضه الله به من بصيرة وحكمة، إلى أن توفي عام 1961 عن عمر ناهز المائة عام تقريبا. تقول سيرته الدراسية إنه التحق بعدد من كتاتيب جدة لتعلم القرآن وتجويده وأصول الفقه والقراءة والكتابة والحساب. فمثلا التحق بكتاب الشيخ «أحمد حبلص» وكتاب الشيخ عيسوي، ثم درس عند الشيخ أحمد بن علي بن سليمان. ويتذكر الرجل بالفخر والاعتزاز فضل والده الذي لم يحرص على تعليمه فقط، وإنما حرص أيضا على اصطحابه معه في رحلاته التجارية الخارجية إلى الهند ومصر والعراق وتركيا وبلاد الشام كي يتعلم أصول التجارة، وإن كان الهدف المستتر لوالده هو عرضه على أطباء تلك البلاد لعلاجه من فقدان البصر. وبالمثل يدين محمد صالح بالكثير لأخيه الأكبر عبدالله بن علي بن عبدالله باعشن لأن الأخير كان يشرف على ذهابه إلى الكُتاب ويعاونه في مراجعة الدروس ويطعمه ويأخذه إلى سريره ويخصص له من يرافقه لحمل كتبه وكراريسه وسجادته في رحلة الذهاب إلى الكُتاب والعودة منه. لقد كان الأخ الأكبر معاونا وبارا بالأخ الأصغر مثلما كان الأخير بارا بوالده ومساعدا له في أعماله.

وتمضي الأيام ويتزوج محمد صالح من فتاة من بلاد الشام (موطن والدته) -طبقا لما ورد في المصدر السابق- وينجب منها ابنته الأولى جواهر، وبعد وفاة هذه الزوجة يكرر العملية فيتزوج من قريبة له هي «محفوظة محمد صالح باعشن» التي أنجبت له قبل وفاتها ولدين هما أحمد وعبدالقادر. ولأن ولده عبدالقادر عانى كثيرا من مرض الربو في صغره، فإنه فضل ملازمته والاعتناء به على أن يتزوج مرة أخرى. لكن بعد مرور سنوات طويلة أخرى قرر أن يتزوج للمرة الثالثة من أخت زوجته الثانية وهي السيدة «عائشة محمد صالح باعشن» التي أنجبت له ابنتين هما رقية وفاطمة.

كتب الكثيرون عن السجايا والخصال الكريمة التي عرف بهما الشيخ محمد صالح، فقد كتب عنه المؤرخ الكبير عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- في كتابه الموسوم «موسوعة تاريخ مدينة جدة» الذي صدرت طبعته الأولى في سنة 1963 واصفا إياه بأنه أحد أهم رجالات جدة وتجارها، وكتب عنه أحمد بن محمد بن عبدالله الوزير في كتابه عن حياة الأمير اليمني علي بن عبدالله الوزير، مشيدا بأمانته وكيف أن قائمقام جدة كان يأتمنه على الأموال والذهب والهدايا الثمينة التي كان كبار زوار جدة يحضرونها معهم، وكيف أن الرجل كان يستضيف الكثيرين ممن يفدون إلى جدة في داره، بل ويساعد المحتاج منهم بمنحه القروض. غير أن خطاط مصحف مكة المكرمة الشيخ محمد طاهر كردي اختصر مزايا وعادات الشيخ محمد صالح بالنص التالي في الصفحة 333 من الجزء السادس من كتابه «التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم»: «هذا الرجل كبير آل باعشن ومفخرتهم بجدة (...) وعلى قدر ما هو ضعيف في جسمه فهو قوي الذاكرة، كبير العقل، عظيم الفضل، لقد ذهب بصره وهو في الثلاثين من عمره تقريبا، لكن الله عزّوجل قد عوضه بتنوير بصيرته وغزارة عقله. وله مكانة عالية لدى أهل البلدة فيزورونه ويستشيرونه في كثير من المسائل، وإنه يفض المشكلات والمنازعات التي تقع بين بعضهم وإنهم يحبونه ويسمعون كلامه لأنه خير مجرب ناصح، ولأنه يمتاز بالوقار والتأني في عواقب الأمور، كما يمتاز وهو في كبر سنه بأدب بالغ وحشمة عظيمة وشعور رقيق، يعطي كل جليس ما يستحقه من الإكرام على حسب مقامه، ويصبر على جليسه المكروه الثقيل فلا يكسر بخاطره حتى ينصرف، وإنه على ما فيه من ضعف وكبر يحب مجالسة الناس ولا يسأم من مخالطتهم على اختلاف طبقاتهم، ويقابل الضيف بكل بشاشة وتودد، ويحب أن يتغدى الناس معه مهما كثروا ولو على غير ميعاد، ومن عاداته أن ينتظر ولديه كل يوم وقت الغداء فإذا حضرا من محل تجارتهما نزلت المائدة إلى الطبقة الأولى من الدار فيأكلون مع من حضر من الضيوف سويا وهذا دأبهم يوميا، وفي الدار محل خاص للزوار والضيوف وهو الطبقة الأولى من الدار مستقلة بجميع منافعها حتى درجتها وسلالمها فلا يتطرقها النساء مطلقا حتى يأخذ الضيف كامل راحته وحريته. وفي مدخل الدار فسحة كبيرة اتخذت مجلسا للسمر في ليالي الصيف كما اتخذت مُصلى أيضا، لأن الشيخ محمد صالح باعشن لا يخرج من داره لكبر سنه فاتخذ هذا المكان يصلي فيه الفروض مع من حضر عنده، وفي شهر رمضان يتخذ له إماما راتبا يصلي بهم التراويح بعد صلاة العشاء».

إلى ما سبق يمكن أن نضيف أشياء أخرى مثل أن الرجل كان مصلحا اجتماعيا يحكم بين الأزواج ويشير على الأسر الجداوية ويساعد الشباب المقبلين على الزواج بمنحهم المساعدات المالية والعينية صدقة لوجه الله ويهتم بالأيتام ويبر بأهله من آل باعشن. وكمثال على الجزئية الأخيرة قام برعاية وتربية «عبود أبوبكر بن عبدالله باعشن» وحقق له حلمه بالذهاب إلى القاهرة لاستكمال تعليمه الجامعي في جامعة عين شمس. كما كان محمد صالح ممن يتبنون في عملهم التجاري مبدأ «اربح قليلا، بع كثيرا»، وكان محبا للعلم وجامعا للكتب والوثائق التاريخية النادرة بدليل أنه ترك خلفه يوم وفاته مكتبة عامرة تم لاحقا إهداء محتوياتها إلى دارة الملك عبدالعزيز.

الأحفاد على طريق الأجداد.. تجارة تتجدد

بالعودة إلى ذرية الشيخ محمد صالح من الذكور، نجد أن ابنه الأصغر عبدالقادر، الذي برع في الهندسة المعمارية والتثمين العقاري، توفي شابا فلم يبق له سوى ابنه الآخر أحمد الذي عمل نائبا لرئيس غرفة تجارة وصناعة جدة في عهد رئيسها الوجيه محمد علي رضا زينل، وكان عضوا في مجلس إدارة قائمقامية جدة (المجلس البلدي لجدة) على مدى 38 عاما، ورئيسا للمحكمة التجارية لمدة طويلة، وناظرا لمدارس الفلاح بجدة ومكة لمدة ربع قرن، ورئيسا للجان الاستيراد في عهد الملك سعود يرحمه الله. ومن ناحية أخرى، يُذكر للشيخ أحمد محمد صالح باعشن أنه قام ببناء مبان لمدارس الفلاح عبر استخدام الأموال التي تجمعت من فكرة مشروع قرش الفلاح (مشروع اقترحه الملك المؤسس بهدف توفير الأموال اللازمة لاستمرار عمل هذه المدارس في محو الأمية وتخريج الكفاءات الوطنية المتعلمة، وكان مضمون المشروع فرض ضريبة بقيمة قرش واحد على كل طرد بضائع يدخل ميناء جدة)، وبهذا سار الابن أحمد على خطى أبيه الذي اهتم بمدارس الفلاح وشغل رئاسة مجلس إدارتها. إذ يذكر لنا رجل الأعمال والرياضي أسعد محمد قنديل في مقابلة مع مجلة اليمامة (14/‏ 7/‏ 2012) أنه بعد تخرجه مع زملائه في مدارس الفلاح سافروا بحرا إلى مصر كي ينالوا منها الشهادة التوجيهية قبل التحاقهم بالجامعة هناك، وفي القاهرة كان في استقبالهم الشيخ محمد صالح باعشن بصفته رئيسا لمجلس إدارة الفلاح، فاهتم بتوفير السكن الفندقي الملائم لهم، وأخذهم إلى محلات بيع الأقمشة والخياطة من أجل تجهيز ملابس جديدة لهم بدلا من ملابسهم العربية، ونظم لهم رحلة بالقطار إلى طنطا، حيث كانت توجد مدرستهم الثانوية.

بعد وفاة الشيخ محمد صالح وابنه الأصغر عبدالقادر، آلت التجارة العريقة التي تأسست في جدة في عام 1920 إلى الابن الأكبر الشيخ أحمد محمد صالح علي عبدالله باعشن، الذي أعاد هيكلتها تطويرا لها وحفاظا على حقوق الورثة وذلك بتأسيس «شركة أحمد محمد صالح باعشن وشركاه» كمؤسسة عائلية مساهمة. وقد ركزت الشركة أنشطتها على قطاع المواد الغذائية، وتحديدا الشاي والسكر، ونجحت في اتباع استراتيجية جديدة قائمة على الإنتاج والتسويق والتوزيع بعيدا عن الارتباط باتفاقيات مع المنتجين العالميين للتوزيع في السعودية. ووفقا لهذه الاستراتيجية قامت شركة باعشن بدءا من عام 1994 باستثمارات ضخمة في مجال بناء مرافق لاستيراد الشاي من مختلف الدول المنتجة له ومزجه وتعبئته وتغليفه في جدة بجودة عالية ونكهات مختلفة ملبية لكل الأذواق.


الحفيد أحمد.. تاجر برتبة مؤرخ

إذا ما أردنا أن نتحدث عن الشيخ أحمد باعشن، فإنه لا يكفي وصفه بالتاجر فحسب؛ فهو إضافة إلى ذلك مرجع مهم في تاريخ مدينة جدة بسبب معاصرته لأحداث كثيرة مرت على عروس البحر الأحمر، ناهيك عن اطلاعه على كل الكتب التاريخية التي كتبت عن جدة بأقلام المؤرخين القدامى والمعاصرين. وآية ذلك مقابلة قديمة منشورة له في ملحق خاص للزميلة صحيفة المدينة عن جدة في شهر أغسطس 1977؛ ففي تلك المقابلة لم يترك الرجل شاردة أو واردة عن جدة إلا وتطرق لها بالتفصيل الدقيق، متحدثا عن مساحتها التي لم تكن تتجاوز أربعة كيلومترات مربعة في منتصف الأربعينات، وعن سورها القديم الذي أزالته الحكومة في عام 1947، وبداية التعليم فيها وأولى مدارسها وأول عهدها بتعليم البنات وأول صحيفة صدرت فيها، وعن خدمات البريد والإنارة والمياه والأمن بها، وعن عادات أهلها قديما في مسائل الزواج والأفراح والمهور واللباس والطعام والولائم. ومما ذكره من معلومات أن أول سيارة تحركت في شوارع جدة كانت في عام 1336 للهجرة (1918 للميلاد) لكن الشريف حسين حطمها خوفا على مستقبل الجمال. وأن جدة لم تعرف الغلاء إلا بعد الحرب العالمية الثانية حينما ارتفع سعر كيس الأرز من نصف جنيه إلى 40 جنيها قبل أن يعود السعر تدريجيا إلى الاعتدال. وأن بداية الصحافة في جدة كانت قبل الحرب العالمية الأولى حينما أصدر شخص سوري يدعى راغب توكل بمساعدة محرر لبناني يدعى هارني صحيفة الأهالي الأسبوعية التي لم تستمر طويلا بسبب عدم إقبال الناس عليها لتفشي الأمية في صفوفهم، وأن مباني جدة القديمة هي المنازل الموجودة في شارع الذهب وكان أقدمها على الإطلاق «زاوية بن عفان» و«بيت العلاف» وهم من مكة.

وقد أخبرنا الشيخ أحمد أيضا أن أحوال جدة الاقتصادية تأثرت سلبا بافتتاح قناة السويس، «فجدة قبل فتح قناة السويس كانت مدينة مصدرة.. حيث كانت عروس البحر هي المنفذ الوحيد لكل حاصلات آسيا تنقل في مراكب الأجداد إلى القصير الميناء المصري القديم الذي قل دوره، ومن القصير تصل بضائع آسيا إلى أوروبا والعالم، وعلى ذلك فقد كانت التجارة نشطة، حيث كان التجار يرسلون السفن تجوب البصرة والهند وتجلب من كلكتا الأرز والدقيق والحاصلات المختلفة والبهارات والبصل والأقمشة بأنواعها، وأصبح بجدة جالية تجارية كبيرة».


* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين