-A +A
سعيد السريحي
على مسافة تتجاوز النصف قرن أستعيد حجة جمعة ساعد زميلي في الصف السادس الابتدائي التي رفعها في وجه والديه وهما يلحان عليه أن يقتدي بي، ويبدو أنني قد ظفرت بإعجابهما يريانني مقتعدا كل مساء عتبة بيتنا وفي يدي كتاب، هتف جمعة بوالديه: تبغوني أصير أعمى مثله؟ ترى القراية الزايدة خلته خلاص ما عاد يشوف دربه، ثم راح يحدثهم كيف أنه أنقذني من أن أسقط في حفرة كانت على الطريق حين كنا عائدين من صلاة العشاء.

على مسافة تزيد على الخمسين عاما أستعيد حجة جمعة وبحصافة من لم تزده الأيام إلا ثقة بأن الحقيقة احتمال والحق وجهة نظر أتساءل عما إذا كان لتلك الحجة جانب من الصواب يمكن أن تحمل عليه، وإذا ما تجاوزنا العمى بمفهومه الحرفي فإن أخذ العمى بالمفهوم الرمزي من شأنه أن يجعلنا ننظر إلى القراءة باعتبارها فعلا يفضي إلى حجبنا عن رؤية الواقع الذي نحياه ويحد من قدرتنا على التعايش مع هذا الواقع بما يغرينا به من عالم افتراضي نتوهم أنه يجعلنا أكثر قدرة على تفهم الواقع بينما هو يسلبنا براءة التعايش ودهشة التجربة التي يحظى بها أولئك الذين نراهم لا يقرأون ونظن أنهم لا يتفهمون الواقع بنفس درجة الوعي التي نتفهمها به متناسين أننا لا نملك السعادة التي يمتلكونها، وحين لا يكون لنا مناص من مواجهة هذه الحقيقة لا نجد ما نعبر به عن إحساسنا بالحسرة إلا أن نستعيد بيت المتنبي (ذو العقل يشقى في الحياة بعقله) وما كان لذلك العقل أن يصبح سببا للشقاء لولا أنه وليد القراءة التي حجبته بعمى حرمه متعة الحياة فلم ير فيها إلا شقاء، وهو عمى ليس ببعيد عن العمى الذي حذر زميلي جمعة ساعد والديه منه لو أكرهاه على أن يقتدي بي في القراءة.


حسنا.. أعرف أنكم قد تعتقدون أن آخر مناسبة يمكن أن يقال فيها ما قلت هي هذه المناسبة التي يحتفي فيها الغالم بالكتاب وبالقراءة، غير أني أعتقد أنها هي المناسبة المثالية لقول ذلك، فإذا لم يكن لنا بد من أن نهجو الكتاب فلنفعل ذلك في حضرته، في يوم عرسه، وعلى طريقة البدو الذين يختارون أفراح خصومهم لنيل الثأر منهم.

هل ثمة ثأر بين الذين وقعوا في براثن القراءة والكتاب؟ إن لم يكن هناك ثأر فكيف لنا أن نفهم قول العقاد حين رفع يديه ذات قهر يدعو:

لا رحم الرحمن فيمن مضى

من علم العالم أن يكتبوا

ولعل الشعور نفسه قد راودني قبل ما يقارب الأربعين عاما حين كتبت:

أحمل رأسي بين يديّ كسلة أوراقٍ

أتلمس فوق الجبهة أخدودا كمجاري الماء الآسن في الطرقات

وأحدق في عينيّ طويلا

بئران يعشش فيها الصمت

أتساءل من سرق ضياء الفجر النابض خلف الحدقة؟

من ترك السوس الناخر يعبث في موق العين؟

من سكب الحبر الأسود في ماء الدمع؟

فتقهقه أفعى رقدت في جمجمة فوق الرف

أبصر في عينيها أشلاء من عمر ضائع

أبصر في نابيها مزقا من لحم بشري

أعرف أنه ليس بمقدوري أن أقنعكم بحجة جمعة وأعرف أنكم لن تغفروا لي هجاء الكتب ما دمتم ترون أن هذه الكتب هي التي طورت البشرية وصنعت التقدم، ولكم الحق في رؤية ما ترونه غير أني أتمنى عليكم أن تتذكروا أن كل الكتب مذ أول سطر محفور على جدار الكهف حتى آخر سطر مرقوم على الحاسب الآلي لم تستطع أن تنقذ البشرية مما نراها عليه اليوم حيث يتقاسمها الفقر والجوع والمرض والقتل والتشريد والإرهاب والأنظمة الفاسدة.

لا أنتظر منكم أن تتفقوا معي على أن كل ما تفعله الكتب إنما هو محاولات تحاول أن تمحو بها جرائم ارتكبتها كتب سبقتها حتى وإن كانت تؤسس بما تحاوله لجرائم أشد بشاعة مما تحاول محوه، لا أنتظر منكم ذلك ولكم إن شئتم أن تسيئوا الظن بما انتهى بي القلق إليه وتضربوا كفا بكف تستعيذون بالله من سوء الخاتمة، كما لكم، إن شئتم كذلك، أن تخسنوا الظن فترون أنها لوثة عابرة كتلك التي حملت كثير عزة أن يقول على عشقه لها:

من حبها أتمنى أن يقابلني

من نحو بلدتها ناعٍ فينعاها

*كاتب وناقد سعودي