-A +A
علي العميم *
في سرده لاقتحام كليات الأعمال والمهن للكليات والجامعات التقليدية في بريطانيا وأمريكا يذكر أن جامعة واريك التي أنشأتها الحكومة البريطانية سنة 1965 مع دعم قوي من قادة الصناعة كانت أول جامعة الغاية من إنشائها أن تكون «جامعة أعمال» ولم تعرف هذه الغاية إلا فيما بعد، وذلك حين اعتصم الطلاب واكتشفوا ملفات سرية عن توجهاتهم السياسية هم والأساتذة وبقية المنسوبين، وعن تآزر رجال الأعمال مع الإدارة ضد الطلاب والأساتذة. ويشير إلى أن المؤرخ البريطاني تومسون، الذي كان أستاذاً في الجامعة، ألف كتاباً عن هذه القضية، مبنيا على ذلك الملف، وأسماه: (جامعة يورك المحدودة.. الصناعة، والإدارة والجامعات)، ولم يكن متقبلاً لنظام الجامعة التي شكل الربح الأولوية عندها، وفضلت التحكم الإداري على الديموقراطية والحوار الفكري، لذا عد الانتصار في القضية ميلاداً حقيقياً للجامعة، فقد تفوقت مثل التميز الأكاديمي والبحث عن المعرفة على أهداف «جامعة الأعمال».

ولم تظهر سطوة النيوليبرالية في بريطانيا - كما يرى نعيمان - إلا في تسعينات القرن الماضي، حيث عوملت المعرفة كسلعة، وأحدثت النيوليبرالية في القطاع العام أسلوب الإدارة العامة الجديدة (NPM) أو الإداروية الجديدة، فالنيوليبرالية وأسلوب الإدارة الجديدة (NPM)، يعدهما تطوراً شاملاً كان مثال جامعة واريك إرهاصاً به.


أما في أمريكا فيذكر ضمن ذلك السرد، أن فرانك دوناهيو يؤرخ لصدور أول شهادة في إدارة الأعمال من مدرسة وارتون في جامعة بنسلفانيا عام 1881، إلا أن أوبتون سنكلير يعتقد أن أول مرتكب لهذا الفحش هي هارفارد بإنشائها كلية التجارة والإدارة، وانتقلت هذه العدوى عبر البلاد شرق أمريكا إلى غربها.

كما يذكر أنه يظهر دور رجال الأعمال والصناعة في الكليات في أمريكا من عنوان كتاب فِبْلن Veblen (التعليم في أمريكا: بيان عن إدارة رجال الأعمال للجامعات) الصادر سنة 1819. واستناداً إلى هذا الكتاب يقول: إن مطلع القرن العشرين شهد ظهور تيارين: أحدهما يرفض الكليات لأنها غارقة في دراسات ليست لها قيمة عملية أو مردود مادي، والآخر يرى أن المهن والحرف لا ترقى لأن تكون ضمن التعليم العالي... وفي الفترة نفسها تقريباً التي صدر فيها كتاب فبلن أصدر سنكلير كتاباً يهاجم فيه سطوة رجال الأعمال، فمعظم الجامعات أسسها بارونات الصناعة، ويرى أنهم اختطفوا التعليم العالي لأغراضهم الشخصية وسخروا الجامعات لتدريب الطلاب من أجل العمل في مجال الأعمال.

يجري نعيمان مقارنة بين الاثنين، فيقول: يتسم نقد سنكلير بالحدة وبالتجريح الشخصي المباشر، خاصة لرؤساء الجامعات ولمؤسسيها، وهو يؤيد فلبن وإيحاءاته بالفساد في مجالس الأمناء وموقفه من الكليات الحرفية والمهنية. ويرى أن هذه الحرف والمهن يجب تدريسها في مدارس خارج الجامعات منتقداً حشر أقسام وكليات التجارة في الجامعات وخلعها على نفسها ألقاباً ومنازل أكاديمية. يوافق فبلن في نظرته إلى كلية الأعمال، ويقول عن جامعة إلينوي إنها أشهرت نفسها بتمجيدها التجارة، فكلية كاملة خصصت لعبادة آلهة المال، أما فلبن فقد أعطى أمثلة على اقتحام المال والأعمال الجامعة: مدارس التجارة commerce «تجارة وسياسة»، تدريب الأعمال Business Trainig، تجارة وإدارة Commerce and Administrtion، تجارة وتمويل، وكلها معدة لكبح التعليم من أجل المعرفة الدنيوية.

يتوقف في هذا الفصل عند مجموعة من الأكاديميين السعوديين، هم: سعيد العضاضي، وخالد العجمي، ويسرى جمجوم، وطارق إلياس، والحسن الصاعدي، وعند أكاديمية مصرية عتيقة، هي محيا زيتون، عارضاً آراءهم ومناقشاً لها.

يعتمد نعيمان في عرض آراء العضاضي على دراستين له هما: «الحضارة الطائفية أهم خصائص المنظمات الرائدة... جامعة الإمام مثالاً»، و«تطبيق نموذج إدارة الجودة الشاملة على جامعة الإمام»، وعلى ثلاثة مقالات صحفية له. ويرى أنه لا يميز في التنظيم الإداري بين القطاع الخاص والقطاع العام، فالمثالان عنده لتحقيق «الحضارة الطائفية» هي أرامكو وجامعة الإمام!

«الحضارة الطائفية» هي عند العضاضي مصطلح يجمع بين إدارة الأعمال وعلم الأديان، وهذا المصطلح الذي يزيده تعريفاً هو عبارة عن التفاف الناس حول فكره أو معتقد «إداري» يؤمنون به ويوقرونه ويعظمونه، وعند نعيمان أن هذه النية وهذه المفاهيم ليس لهما صلة بــ«علم» الإدارة ومجال التعليم.وبعد أن يعرض لآرائه في كلية الأعمال والفكر الإداري وإدارة الجودة والتعليم العالي مع تناول جوانب القصور فيها، يقرر أن العقلانية التي هي لب البيروقراطية عند فيبر وأساس الجامعة عند كانط هي الغائب الأكبر في نقاشاته. يختلف خالد العجمي في رسالة دكتوراه منشورة باللغة الإنجليزية مع باحثين سعوديين وأجانب أيدوا عبور الادارة للثقافات، ذلك لأن «للسعوديين اختلاف ثقافي عن أي دولة غربية، ولب الاختلاف مصدره فرادة المعتقدات والتدريس السعودي وعمق التقاليد العربية والقبلية». هكذا يبتدئ نعيمان عرض وجهة نظره. ويشير إلى أن له رأياً مشابهاً لما ورد في كتاب وزارة التعليم العالي الذي ناقشه في الفصل الأول، وهو أن للسعوديين انحيازا شديدا للجماعة والعلاقات الاجتماعية الوطيدة وكراهية للجدل الذي يؤدي للخلاف، وبالتالي قد يواجه أساليب الإدارة الغربية صعوبات شديدة عند تطبيقها في البيئة التعليمية والاقتصادية السعودية، ناهيك عن البيئة السياسية والدينية. ويذكر نعيمان أن التعليم والإسلام في تصور العجمي متلازمان، لهذا هو يقتبس ما يؤكد استناد التعليم إلى قيم الإسلام. وهذا الأمر يأتي بخلاف تركيز كتاب الوزارة على التنمية الاقتصادية عند استشهادهم بخطط الدولة للتنمية. وتماشياً مع التدخل الرسمي، يقول: إنه يؤيد الانفتاح العلمي، فـ«الجامعات ليست حدائق سرية، ولا يمكنها بعد الآن ــ ثمانينات القرن الماضي وهجوم نيولبرالية تاتشر وريغان ـــ الاختفاء خلف ستار الدفاع عن الاستقلال والحرية الأكاديمية». وفي تقدير نعيمان أن كثيرا من هذه الآراء تتنافى ودعوته لإيلاء «القطاع الديني الدور الأكبر في وضع المقررات لجامعات تحكمها إدارة حكومية مركزية في مجتمع فريد مختلف عن بقية الدول بــ «تماسكه»، و«انسجامه»، و«تقاليده»، و«ضبطه».

يوضح أن يسرى جمجوم في رسالتها للدكتوراه المنشورة باللغة الإنجليزية تجتمع وخالد العجمي في بعض الآراء، إضافة إلى الخلفية في مجال الأعمال، فهي خريجة إدارة أعمال كلية اقتصاد جامعة عبدالعزيز، ولها مثله تجربة في التعليم الأمريكي قبل التحاقها بمعهد التربية في جامعة لندن وحصولها على الدكتوراه في التعليم العالي الخاص في السعودية.

هي - كما يقول - وإن كان يخلو حديثها من «الفرادة»، إلا أنها مثله تقول إن لكل بلد بيئته السياسية والاجتماعية. وحضها القطاع الخاص على تطوير ما تسميه بــ«منهج عضوي» يعتمد على البيئة السياسية للمملكة ويعالج قضايا ومطالب اجتماعية وثقافية وسياسية.

وتغفل أن المجتمع السعودي مجتمع مغلق ومقيد، والفوائد العامة للتعليم الخاص لا مكان لها في هذا المجتمع الذي تحكمه قوانين دينية. وفي اختلاف عن رأي العجمي بتجانس المجتمع، فإن رأيها يماثل رأي الخازم، إذ إن مذهبا واحداً هو الذي يلقى الحظوة. لكنها لا تتخذ مثلة موقفاً مناوئاً، ورأيها مشابه هنا لموقف العجمي، فالسعودية كدولة إسلامية تخضع لتاريخ طويل وتقاليد من الفصل بين الجنسين.

والتعليم العالي الخاص المساوي بين الجنسين يُفَضَّل لكن لا تقاس المساواة بمعايير عالمية، فالسعودية دولة إسلامية، ولذا هناك ضرورة لوجود معايير مختلفة، لكنها تختلف شيئاً ما عنه بالتطلع إلى دور للكليات الخاصة في تدشين التعليم المختلط.

في فقرة ساخرة يخبرنا أن يسرى لا تجاري العجمي في قوله بجدة بحثه وأهميته، فهو يؤكد بكل ثقة أن «أطروحته أصلية، وأن هذه الأصالة ستدعمها التوصيات عن المنهج، وإنها ستقدم إلهاماً في المعرفة»، في حين أنها قالت إن أطروحتها فيها إسهام في المعرفة يمثل في طرح وجهة نظر جديدة لدراسة المنطقة وتقديم معرفة أفضل عن المملكة.

وهو يعذرهما ويلقي باللوم على همبولدت وبداية البحوث العلمية الجامعية التي يتوجب أن تضيف معرفة جديدة تتوج بشهادة الدكتوراه.

*باحث وكاتب سعودي