-A +A
محمد مفتي
تحدثت في مقالي السابق «مدينة الأحلام» عن المدينة الترفيهية المزمع إقامتها بمنطقة القدية كأحد المشروعات الاستثمارية للمملكة في ضوء رؤية 2030، وقد وردت إلي بعض الاستفسارات حيال الجدوى والعائد الاقتصادي المتوقع من إنشاء ذلك المشروع، كما أظهر البعض بعض التخوفات إزاء الظروف المصاحبة لإنشاء تلك المدينة، والتي قد لا تتناسب مع طبيعة البيئة والمجتمع السعودي. في واقع الأمر، أعتقد أن المشككين في الجدوى الاقتصادية من المشروع لديهم مشكلتان؛ تتعلق الأولى بسوء فهم مفهوم الاستثمار، والذي يقصره الكثيرون على مجالات التصنيع المختلفة، ولاسيما الأنواع الثقيلة منه، أما الثانية فتتمثل في عدم فهم فكرة أو طبيعة وهدف إنشاء مثل هذا المشروع.

لو نظرنا لهذا المشروع بنظرة موضوعية من منظور واحد فقط هو الاستثمار الأجنبي المباشر، فسنجد أن تلك المدينة كونها تسعى لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لداخل المملكة، فإنها تقوم بدور كبير في دعم الاقتصاد السعودي على المديين القصير والطويل معاً، والذي بدأ بجهد حثيث يسعى لتنويع مصادر دخله الوطني بعيداً عن النفط، والاستثمارات الأجنبية المباشرة لن تنصب على المشاركة في إنشاء تلك المدينة فحسب، بل سيكون إنشاء تلك المدينة سبباً في استقطاب تلك الاستثمارات حتى بعد إنشائها، وهو ما سيحدث بالقطع في حال نجاح المدينة وقدرتها على تحقيق أهدافها وفعالياتها على النحو المنشود.


من ناحية بعد الموقع عن المناطق العمرانية فقد أوضحت في مقالي السابق، أن من الطبيعي ألا يغفل القائمون على المشروع دور الخدمات اللوجيستية المصاحبة لتنفيذ المشروع، والتي ستعد بدورها أحد محاور التنمية العمرانية المتوازية للمناطق المعمورة بالفعل، فلو تم إنشاء تلك المدينة العملاقة داخل مدينة الرياض نفسها، ما الذي ستستفيده المدينة من عمران وهي عامرة بالفعل إلا المزيد من الازدحام في وسائل النقل والمواصلات والاكتظاظ السكاني الخانق؟ أما لو تم بناؤها على أطراف المدينة وبعيداً عن المناطق المزدحمة فإن هذا الأمر سيسمح بتنمية تلك المناطق حضارياً لسهولة وتيسير الوصول إليها، وهو ما سوف يخلق نوعا من الحراك التنموي العمراني الموازي.

عادة ما تقام المدن الترفيهية في المناطق البعيدة عن العمران، فهي من ناحية تحتاج مساحات شاسعة لإقامة فعالياتها وأنشطتها، ومن ناحية أخرى تسعى كافة الحكومات لتكامل مشروعاتها على الصعيد الإستراتيجي، فالمدينة الترفيهية المتوقعة ليست مجرد مشروع استثماري منفرد، بل هي مشروع استثماري يهدف لتلبية حاجات اجتماعية تتمثل في تشغيل الأيدي العاملة والقضاء على نسبة من البطالة، كما أنه مشروع موجه لتشجيع برامج السياحة الداخلية والحد من هجرة رأس المال السعودي للخارج، كما أنه يستهدف فئات عديدة من المجتمع السعودي، كفئة الشباب الذي يسعى لتطويرهم على الأصعدة الثقافية والرياضية والترفيهية كافة، المشروع إذن يمثل نقطة تلاق للعديد من الأهداف الإستراتيجية للدولة، وليس مجرد مشروع استهلاكي ضيق الأفق يسعى للربح السريع قصير المدى.

قد يتخوف البعض من تدخلات بعض المحتسبين في أنشطة المدينة كما كان يحدث في فترات سابقة، وفي اعتقادي أنه تخوف في غير محله، فمن المؤكد أن المدينة الترفيهية لن تكون بأي حال مرتعاً للتحلل الأخلاقي كما قد يعتقد البعض، فالدولة ستقوم بطبيعة الحال أثناء التخطيط لمرافق هذه المدينة وسبل إدارة أنشطتها بمراعاة القواعد والضوابط التي تتسق مع ديننا الحنيف قبل كل شيء، كما أن الضوابط التي وضعتها الدولة لتنظيم عمل الهيئة ستحد من أي تدخلات وتجاوزات قد تؤدي لما يتخوف منه البعض، وهي ظاهرة اتهت تقريباً منذ صدور التنظيم الجديد.

على الرغم من أننا نتوقع أن المشروع لن يدر الكثير من الأرباح في السنوات الأولى -كأي مشروع اقتصادي- حتى يتمكن من إثبات كفاءته وجدارته على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، إلا أننا نأمل أن يتم التخطيط التسويقي له على النحو المنشود، فمن المهم أن تتناسب الدعاية والتسويق لهذه المدينة العملاقة مع قدراتها وإمكاناتها المادية والمالية والإنشائية، كما نأمل أن يتواكب ذلك مع تسهيل إجراءات منح التأشيرات للأجانب لاستقطابهم لزيارة المملكة، ونأمل على نفس الصعيد أن نتمكن من نشر مفهوم صناعة السياحة بين العاملين فيها والمهتمين بها.

نقطة أخيرة وهي الأهم، أننا نرجو أن تتناسب أسعار الحصول على خدمات المدينة الترفيهية مع جودتها وكفاءتها وأن تكون في متناول الكثيرين، ليتحقق لها النجاح والرواج والازدهار المنشود، على أن يتم التعامل مع مسؤولين أكفاء لإدارة الفعاليات والأنشطة والمسابقات التي ستقام فيها، ولو تم التخطيط لهذه المدينة على نحو جيد، وتنفيذ ما تم تخطيطه بكفاءة فمن المتوقع أن يكتب لهذه المدينة نجاحاً غير مسبوق، يضاهي نجاح ديزني لاند في أورلاندو وطوكيو وباريس، والتي لا تزال تحظى بإقبال شديد على الرغم من سنوات عمر بعضها الطويلة، فدعونا نأمل ونتمنى أن نتمكن من إنشائها على النحو الصائب، وأن تنجح وتستمر في النجاح مستقبلاً، وأن تكون إحدى الهدايا القيمة للأجيال الناشئة والقادمة.