-A +A
عبداللطيف الضويحي
إذا كان الشعر محفزا ومنبها وخطاً أماميا بالصورة والخيال والإبداع بما يرسم ملامح أي هوية ثقافية وأي ثقافة، وخطا خلفيا للمساندة والإمداد والحراك الثقافي والديناميكية اللغوية والحضارية، فهل يحق لنا وصم كثير مما تعيشه الساحة الشعرية في الوطن العربي بأنه نوع من أنواع المخدرات التي تقلب الحقائق وتجعل من الهزائم انتصارات والسقوط إلى صعود وعمق القاع إلى قمة جبل شامخ، فيعيش الناس سحر الكذبة ويستغرقون في متعة القصيدة كإنجاز وهمي يضاهون به الأمم وشعوب الأرض؟

إذا كان الشعر سحرا فقد أبطلت الأرقام والنظريات العلمية سحره ورونقه، وإذا كان الشعر ماءً وهواء فقد أصبح الماء غوراً والهواء تلوثاً ودخانا، وإذا كان الشعر رومانسيةً فقد اخترق المستكشفون وعلماء الفضاء الصورة الخيالية للقمر وكل النجوم والكواكب والتي رسمها الشعراء ردحا من الزمن ليصوروا القمر الحقيقي، فلم يعد للشعراء ما يهيمون به ويتغزلون.


أحيانا يعرف الناس أن الشعراء يخدرونهم بتصوير الأخطار والكوارث على أنها نجاحات باهرة، وبأن السقوط المدوي هو صعود في الحقيقة خارق وبأن عمق القاع في الحقيقة هو قمة جبل يواجه الريح ويتصدى للصواريخ والطائرات، ومع ذلك يستطيب الناس هذا النوع من التخدير كي لا يصدموا بحقيقتهم وواقعهم. تماما كمن يستعين بالمخدرات ليخرج مؤقتا من واقعه حتى يجد نفسه أدمن هذه المخدرات فأصبحت مشكلته المخدرات، بعد أن كان يستعين بها للتغلب على مشكلاته أو كما قال امرؤ القيس: «اليوم خمر وغدا أمر».

لم يكن الشعراء منفردين في هذا النوع من التعاطي للحظة النصر الوهمي، فالإعلام العربي وخاصة الإعلام العربي مارس هذه الصناعة ربما كان يستعير من الشعر العربي نفس لحظات السعادة الوهمية، لأن الشعر العربي أقدم من الإعلام العربي وهو بلا شك ما أسهم بتزوير الوقائع والتاريخ وتزييف الوعي وما نتج عنه من نتوءات وأورام في جسم الثقافة العربية.

في إحدى المناسبات، وقبل أيام قدم أحدهم نفسه بأنه شاعر المنطقة، أما الثاني فقدم نفسه بأنه شاعر الشباب وغيره آخرون قدموا أنفسهم. في الحقيقة قائمة من الألقاب الشعرية. لا أعرف من المسئول عن تلك الألقاب ؟ هل هناك من يمنحهم هذه الألقاب أم أنهم في جزر معزولة يشرعون وينفذون ما يطيب لهم. لكن الكارثة حين يبدأ أحدهم قصيدته وينهيها بمصفوفة رياضية من الكلام المقفى الفاقد لأي معنى أو إحساس فضلا عن الفقر الشديد لأي إبداع. أما الصور الشعرية المكررة آلاف المرات ناهيك عن المضمون الفارغ إلا من المديح الوهمي الفج وهياط الفخر.

أما آن لهذا الهياط أن يتوقف؟ أين الشعر أيها القوم؟ كفى مديحا كفى فخرا كفى هجاءً كفى تغييبا للعقل والوعي.

إذا كان هذا الشعر ترفيها فيا هيئة الترفيه ادرسوا قيمته الترفيهية وطوروها بدلا عن المراجيح والسيرك، وإذا كان هذا الشعر ثقافة فيا هيئة الثقافة، فاشرحوا لنا قيمته الشعرية والأدبية والثقافية بل وادرسوا خطورته على تغييب الوعي، وإذا كان هذا نوعا من أنواع المخدرات، فإنني أناشد المديرية العامة للمخدرات لمنعه من المجتمع.

هل هي مشكلة الشعر أم هي مشكلة الشعراء ؟ أم أنها إشكالية الشعر وجدلية المهنة والهواية، حيث امتعض عدد من الشعراء من تصنيف إحدى الوزارات للشعر كمهنة، ما يعني أنه مصدر للرزق، وهو ما أثار حفيظة الشعراء المحترمين والذين ينظرون للشعر على أنه هواية راقية تخاطب الإحساس وتناجي الوجدان ولا علاقة لها بالمقابل المادي.

أم أن الشعر قد استنفد الغرض منه في هذا العصر؟ وهل ما تعيشه كثير من الساحات الثقافية من موضوعات شعرية يسهم في دهورة الساحة الثقافية والإبداعية؟ ما هو الدور السلبي للشعر في ثقافتنا العربية؟ وهل تسبب الشعر بخلق جزر ثقافية معزولة عن الواقع فضلا عن العزل المكاني والزماني؟ وهل لا يزال الشعر يمتلك أدوات ثقافية قادرة على عكس طموحات وهموم الإنسان العربي؟ هل يجوز القول بأن الشعر وسيلة قادرة للتعبير عن الإنسان العربي؟ هل كل الشعراء المعاصرين هم شعراء حقيقيون أم أن الشعر العامي هو أسهل المتاح والذي لا يحتاج إلى تعليم؟ هل لو تعلم بعض الشعراء أدوات أخرى غير الشعر هل كانوا يكتبون الشعر؟

هل لوزارة وهيئة الثقافة والأندية الأدبية دور في تغيير مسار الشعر من خلال تغيير مسار الشعراء وتحويلهم إلى منتجات ثقافية أكثر جدوى وأكثر ملاءمة لمواهب أصحابها؟

إنني أسوق من هنا هذا المقترح إلى وزارة الثقافة وهيئة الثقافة والأندية الأدبية لإطلاق برنامج لإعادة تأهيل أغلب شعراء العامية وتدريبهم على أدوات أدبية أخرى بما فيها القصة والمقالة وربما الرواية علها تنجح باكتشاف أنفسهم في مجال آخر، أو على الأقل تسهم بوقف ثقافة المديح والمفاخرة والهياط والهجاء إلى الأبد.