-A +A
رشيد بن حويل البيضاني
الرومانسية (الإبداعية) حركة أدبية وفكرية وفنية، نشأت في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر ميلادي، وقد ظهرت كرد فعل ضد الثورة الصناعية، وتجسدت بقوة في الفنون والآداب، وكان لها تأثير بالغ في التاريخ والعلوم الطبيعية، بل والسياسية أيضا، وهي تؤكد على أن قوة المشاعر والعواطف والخيال، هي المصدر الحقيقي والأصيل للتجارب الجمالية، مع التركيز على شتى العواطف الإنسانية.

وقد انتقلت هذه الحركة عبر أقطار العالم، ووصلت إلى عالمنا العربي –وبخاصة في مصر والشام– في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتجلت بشكل كبير في مجالات الأدب والفنون، وكان لها انعكاساتها على الحياة والعلاقات الإنسانية، وسجل لنا الأدب العربي –شعرا ونثرا– تأثير هذه الحركة المبالغ، ولعل المطلع على شعر الأديب الراحل غازي القصيبي في بداية مراحله، يشهد هذا التأثير بوضوح، بل إنه في أواخر قصائده، وبعد رحلة طويلة مع الشعر، نراه يعود إلى الرومانسية التي افتقدها شعره، كما افتقدها شعر وأدب الآخرين، بل إنها اندثرت من قاموس حياتنا، وأصبحت مجالا للسخرية ممن حافظوا عليها في علاقاتهم وكتاباتهم.


المهم هنا أن العلاقات الإنسانية الرومانسية هي بيت القصيد في مقالنا هذا، إذ إننا نعيش حالة من المادية البحتة في المعاملات والعلاقات، لا أقول بين المرء وزملائه وأصدقائه بل بين المرء وزوجه وأفراد أسرته، فقد سيطرت الماديات على حياتنا، وأصبحت هي الموجه الرئيس في العلاقات بين الناس، لم يعد للمرء منا –وبخاصة للشباب– وقت للتأمل والتفكير في جمال الطبيعة، وما حبانا به الله تعالى من نعم لا نقدرها ولا نعرف قيمتها، تكالب بين البشر على كل مظهر من مظاهر الحياة المادية، ناهيك عن الكدح والسعي الدؤوب لتحقيق الاحتياجات الحياتية، وهو ما جعل الكثير ينسون الأحاسيس والمشاعر التي يتميز الإنسان بها عن الحيوان.

نعم، ربما لحق جيلنا أواخر الرومانسية وزمان أفول نجمها، لكني على يقين من أن جيل الأبناء ربما لا يعرف معنى الكلمة، ناهيك عن عدم معايشتها.

بلا شك من كبار مستهلكي منتجات الحضارة المادية الغربية، فالظروف الحالية بيئة خصبة للعودة للرومانسية، للعودة إلى التأمل في جمال الكون، للعودة إلى المحبة والألفة والحميمية في العلاقات بيننا. تحجرت المآقي، وتجمدت الدموع، فلم نعد نتأثر بحديث يهز المشاعر، فمشاعرنا في اتجاه آخر، نحو الريال والدولار، نحو الصفقات والأسهم ونحوها، العلاقات الزوجية جافة، وقل من حافظ على كلمات الود والحب مع رفيقة عمره وشريكة حياته، والعلاقات مع الأبناء تحول معظمها إلى أوامر ونواه غليظة، بعيدة تماما عن الحب والرحمة، أما عن علاقات العمل، فحدث ولا حرج، مداهنات ونفاق وشحناء وتباغض، إلا من رحم ربي، وكأننا في صراع، مع أن الحياة أقصر مما تتخيل.

ولنقرأ معاً هذه الأبيات التي كتبها شاعرنا غازي القصيبي من أواخر ما كتب، وفيها يخاطب زوجته، فيقول:

أيـا رفـيقةَ دربـي!.. لو لديّ سوى عـمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري

أحـبـبتني.. وشـبابي فـي فـتوّتهِ ومـا تـغيّرتِ.. والأوجـاعُ سُمّاري

مـنحتني مـن كـنوز الحُبّ أَنفَسها وكـنتُ لـولا نـداكِ الجائعَ العاري

Dr.rasheed17@gmail.com