-A +A
عبداللطيف الضويحي
أحيانا نحن بحاجة لأن نكون جريئين أكثر من أن نكون عباقرة ومفكرين في البحث عن حلول لمشكلاتنا والتفكير خارج الصندوق. فكثيرا ما يكون الربط بين سبب بعينه ونتيجة بعينها كارثة تتسبب بتغييب الحلول نتيجة لاستبعاد غير مقصود للأسباب الحقيقية للمشكلة.

منذ عشرات السنين ونحن نستيقظ وننام على أن فجوة كبيرة بين سوق العمل السعودي ومخرجات التعليم والتدريب تشبه «ثقب الأوزون» تتسع شيئا فشيئا وتتفاقم، وأن السبب الأول والأخير لهذه الفجوة هو مخرجات التعليم السيئة والقاصرة عن احتياجات سوق العمل المحلي.


منذ ذلك الحين ونحن لا نرى سببا لمشكلات سوق العمل السعودي إلا سوء مخرجات التعليم، ونصر على أن لا شيء سوى مخرجات التعليم كسبب ونتيجة مطلقة. هذا الربط لا يجافي الحقيقة، خاصة في بعض الاحتياجات، لكننا ولأسباب تقليدية غير منطقية، تعامينا عن أسباب أخرى جوهرية لا تقل صلة وحيوية في تأثيرها لكل ما يجري في سوق العمل.

كنت وما أزال أؤمن بأن النقابات المهنية والنقابات العمالية هي العصا السحرية التي تكسر الدوامة ما بين ضفتي المعادلة. وأنه مهما تم من إصلاح للتعليم، ومهما ارتقى التدريب، وحتى لو أخذ باحتياجات الأسواق المحلية لحظة بلحظة، سيكون عاملا مهما لكنه لا يشكل ضمانة لبناء تراكم معرفي ونضج بالأداء تتطلبه المرحلة، خاصة رؤية المملكة 2030، مثلما تتطلب مرحلة تأسيس تفعيل نقابات مهنية وعمالية كفيلة بأن تكون جسرا بين سوق العمل والمؤسسات التعليمية والتدريبية في خلق مسارات تعليمية ومهنية منبثقة من الاحتياج، تضمن حقوق المهنة والمهنيين والحرفيين ماديا وفق مرجعيات عادلة تضمن الحد الأعلى من الحقوق الذي تستقر معه المهن والمهنيون في مسارات مهنية ثابتة لا تضطر أن تتقلب حسب تقلبات السوق، ويكون لها تصنيف معتمد ومتداول بين كل مهنة وأصحابها ومجتمعها لتفرض ثقافات مهنية يحترمها أصحابها ولا تضطرهم لأن يغيروا مهنتهم لأسباب مادية أحيانا واجتماعية أو حقوقية أحايين أخرى.

تتنامى وتتوالد مرجعيات التصنيف والاعتماد والتقييم المهني والاحترافي في المملكة في السنوات الأخيرة بشكل يبشر بميلاد مجتمعات مهنية وثقافات حرفية، فمن المركز الوطني للتقويم والاعتماد الأكاديمي إلى هيئة التخصصات الصحية وغيرهما من مرجعيات.

كما أن العاصمة الرياض تشهد هذه الأيام مؤتمرا ومعرضا دوليين للشهادات الاحترافية انسجاماً مع ما تشهده المملكة من تحولات اقتصادية تتطلب رفع كفاءة العاملين في القطاعين الحكومي وغير الحكومي، حيث يشارك بهذا الملتقى عدد من الخبراء وأصحاب الشهادات الاحترافية، فضلا عن متحدثين يمثلون تجارب متعددة، كما تشارك في الملتقى مؤسسات حكومية وشركات يهمها ويعنيها رفع وتعزيز أداء الاقتصاد الوطني القائم على المعرفة والمساهمة في تحقيق رؤية المملكة 2030، والهادفة إلى تنويع الاقتصاد وتشجيع الاستثمار الأجنبي في السوق المحلية، فكان لزاما رفع كفاءة رأس المال البشري المحلي كي يلبي متطلبات التحول في المرحلة القادمة للقطاع الحكومي وغير الحكومي.

من المهم أن تستفيد المملكة من هذا الملتقى إلى أقصى درجات الفائدة حتى لو تكرر انعقاده، ليس فقط لمردوده الاقتصادي والتنموي على خطط المملكة واقتصادها، ولكن أيضا لما تعانيه ثقافة المهنة في المجتمع السعودي من نظرة غير جيدة بل وتدن للثقافة الحرفية لأسباب ضاربة الجذور في ثقافتنا المجتمعية. فسوف يسهم هذا الملتقى في خلق وإثراء ثقافة الاحتراف ومجتمعات المهنية بحيث تحل الشهادات الاحترافية والمهنية محل الشهادات الجامعية والشهادات العليا التي كثيرا ما تكون شهادات وجاهة لا تسمن ولا تغني من جوع، ناهيك عن الشهادات الوهمية التي تؤكد تعلق المجتمع وثقافته الاجتماعية بالوجاهات أكثر من التخصصات والاحترافية والمهنية وقد لا ترى الشهادة مسارا ومهنة واحترافا. كما أن هذا الملتقى سوف يحفز الطلاب والمهنيين والمؤسسات على رفع معاييرهم المهنية، فضلا عن إتاحة الفرصة للمؤسسات المحلية للمنافسة العالمية والإقليمية برأس المال البشري السعودي، بما في ذلك بناء الشراكات.

لعلني أتساءل عن غياب النقابات، بعد كل هذه التغيرات التي تشهدها المملكة والعالم. ما جدوى غياب النقابات المهنية لدينا في الوقت الذي نبحث عن كل الحلول الكفيلة بإطلاق مارد رأس المال البشري السعودي ليتبوأ مكانته الطبيعية والصحيحة في زمن التحولات الاقتصادية الواعدة.

إننا بتأسيس النقابات المهنية والعمالية نقدم الإجابة الفعلية لكل الذين آثروا النقاش والجدال طوال هذه العقود على أن سببا واحدا يقف وراء الفجوة بين التعليم وسوق العمل ذلك هو ضعف مخرجات التعليم، أقول لهم إن النقابات هي التي ستردم الهوة وترفع مستوى التعليم والتدريب وترتقي بالمخرجات وتكشف عن الاحتياجات الفعلية لسوق العمل.

abdulatifalduwaihi@gmail.com