-A +A
محمود صباغ
أكتب هذا المقال بعد مضيّ أسبوع على انطلاق مهرجان كان السينمائي.

تواجد عربي وإقليمي متفاوت، لم يوفّر أحداً من إيران التي تحضر بفيلم لعملاقها الراحل عباس كياروستامي، إلى الأردن الدولة الناشئة سينمائياً التي اقتصر حضورها على إعلان هيئتها الملكيّة للفيلم انطلاق أول مهرجاناتها السينمائية في 2018.


وكما هو متوقع.. عجزت أي تجربة سينمائية سعودية عن اقتناص أي تواجد في أيٍ من فعاليات المهرجان؛ لا في المسابقة الرئيسية ولا في الأقسام الموازية الرسمية، ولا في السوق أو أنشطة مؤسسات الفيلم الوطنية أو التجارية ذات الحضور المؤثر.

وأنا أستخدم مصطلح «تجربة سينمائية» هنا لأنه لا يجوز مثلا أن نقول «سينما سعودية».. لافتقارنا للحد الأدنى من ملامح الصناعة أو الجهاز الرسمي أو الخطة الوطنية.

ولعل غيابنا عن مهرجان كان، وحضورنا المتذبذب في سنوات أخيرة فقط في مهرجانات أخرى كبرى مثل برلين والبندقية وتورنتو، هو جناية غياب الخطة والإستراتيجية الثقافية الوطنية، وفهمنا غير الناضج لمفهوم الاقتصاد الإبداعي وانزياحه عن صدارة أولوياتنا.

هذا الغياب فنياً ربما يوازي في قيمته ودرجته، غيابنا مثلاً عن رابطة الأمم المتحدة سياسياً، أو اعتذارنا عن اللعب في تصفيات كأس العالم أو الأولمبياد رياضياً، أو لجوئنا إلى مناهج الطب الشرقي واليوناني القديم طبياً، أو حتى مثلاً اعتمادنا العسكري على السيوف والبنادق والمكاحل الشعبية دفاعياً.

ونحن نعلم أن الدول لا تصنع أفلاماً لتشارك في مهرجانات كبرى. بل تصنع أفلاماً من أجل حفز التحول الاجتماعي، وتجاوز التحيّزات والفروقات المجتمعية، وإشاعة روح التفاؤل وتصدير القوة الناعمة، وحفز الصناعة الإبداعية وتوسيع الاقتصاد، وتشكيل هويّتها وصورتها الحضارية إزاء الذات والغير. لكن التواجد في المهرجانات، خصوصاً الكبرى، هو منصة مثالية لإطلاق وإبراز كل ما سبق، ومؤشر إحصائي مضمون لتحقيق الأهداف.

تحدث سمو الأمير محمد بن سلمان في مقابلته التلفزيونية الأخيرة مع داود الشريان بشكل لافت عن ضرورة تعزيز المحتوى المحلي. قيمة طرحه، لم تكن في قطعيته فحسب، بل في توازنه؛ فهو ينفتح دون خشية من استلاب، ويعتد ذاتياً دون انزلاق في عزلة.

لكن كما حدّد الأمير قطاعات تعزيز المحتوى المحلي الملحّة في التسليح والتعدين واللوجستكس.. نلفت عنايته الكريمة، والرأي العام، إلى ضرورة أن ينسحب ذلك على قطاع لا يقل أهمية ووجاهة -وربحية أيضاً- وهو المحتوى المحلي الإبداعي.

النموذج المالي والتمويلي المحلي الحالي عاجز. وصناعة السينما المحلية تعاني من خلل منهجي يحدّ من إنتاج أي محتوى إبداعي تنافسي وثابت. ردّ ذلك تأجيلنا لقرار السماح بدور العرض، الذي كررنا مراراً أنه يجب أن يصدر ضمن خطة وطنية عامة تستوفي كامل شروط تحقيق الإيكو-سيستم الخاصة بالصناعة.

جمّدت هيئة الترفيه -الجهة المعنيّة- قرارات تنظيم عروض السينما إلى أجل غير مسمى، وكأنها معضلة شائكة.. رغم أن الأمر كان يتطلب تنسيقاً مع هيئة الثقافة وصنّاع الفيلم والمُنتجين المحليين لوضع خطة وإطار زمني مُعلن ومتفائل.

وفيما ننتظر قرار هيئة الترفيه الفوقي، على صنوها: هيئة الثقافة، التحرّك في مساحتها السابقة على العروض التجارية.

تبدو فرصتنا الأخيرة في إنشاء جهاز أعلى للسينما يضع الخطة الوطنية ويذلل التشريعات ويطرح صناديق التمويل أولاً، وفي إنشاء مؤسسة للفيلم تعنى بالإنتاج والتوزيع ثانياً.

مهرجان كان يخبرنا أن الصناعة تتغير، وأن الفن بات يتزاوج أكثر مع التقنية.

كان الحدث الأبرز هذا العام فيلم المخرج المكسيكي أليخاندرو إناريتو الذي دشّن أول أفلامه بتقنية الواقع الافتراضي. كما حضرت في قائمة أفلام المسابقة الرئيسية إنتاجات غير تقليدية لمواقع (الستريمنغ) مثل نتفلكس وأمازون. تلك كلها مؤشرات لتحولات من طبيعة «قطعية» تقتبس تحولات التقنية، وتمس الشكل وأسلوب العرض والنموذجين المالي والتمويلي.

هناك ارتباط وثيق مؤخراً بأن الاقتصاد الإبداعي، وهو أحد أكبر القطاعات نمواً في الغرب، بات يعزو نموه إلى التزاوج بين الإبداع والتقنية.

مؤسسة الفيلم السعودي المقترحة، يمكن أن تؤسس شراكات مع شركات الاتصالات الوطنية، لإطلاق منصة عروض إلكترونية بتقنية (الستريمنغ)، لتخلق سوقاً واعدة، ونموذجاً مالياً بديلاً، يستثمر الوقت إلى أن تنتهي هيئة الترفيه من فكّ أزمتها المعقّدة العويصة، وتصل إلى البديهي، أي: السماح بعروض السينما.