-A +A
طارق فدعق
سبحان الله أن بعضا من أكبر التغيرات تسببها أصغر الأشياء.. والأحجام المقصودة صغيرة جدا جدا، لدرجة أننا ممكن أن نطلق عليها مصطلح «متناهية الصغر».. يعني بمستوى «فتافيت» أو دون ذلك. وهذه المكونات الصغيرة جدا جدا لا يمكن قياسها، ولكن يمكن تخيلها فقط. ووجد أحد أغرب الأمثلة في عالم الرياضيات. وكلنا طبعا نتخيل أن ذلك العالم هو عالم الأرقام، وبصراحة هذا الوصف يفتقد إلى الدقة، فالرياضيات هي أكثر من ذلك بكثير: هي عالم الفكر، والفلسفة، والأشكال، والأسطح، والمجموعات، والاحتمالات، والتحولات.. ولا ننسى الأرقام أيضا في ذلك العالم الغني، الذي تغير بالكامل بسبب الفتافيت. وإليكم بعض التفاصيل العجيبة: تغير عالم الرياضيات في القرن السابع عشر تغيرا جذريا بسبب فكرة مفادها أن مكونات الأشكال هي أجزاء متناهية الصغر.. الخطوط كهذا مثلا _______ هو عبارة عن مجموعة هائلة من النقاط الصغيرة جدا «فتافيت الفتافيت». وكانت هذه الفكرة جريئة جدا بالرغم من بساطتها. فقد هددت الفكر الفلسفي السائد في العديد من المجالات، وليس فقط في مجال الرياضيات لدرجة أنها أصبحت بمثابة «الكفر». كانت الكنيسة الكاثوليكية هي من أوائل من رفض الفكرة برمتها، ووضعتها في خانة الفكر الضال لأنهم فسروا وجود النقاط متناهية الصغر التي لا يمكن قياسها تحديا للنظام الفكري القائم على الترتيب والقياس والثقة التامة في الكميات. وخلال تلك السنوات عانت الكنيسة الكاثوليكية في روما من الهجوم العنيف من الحركة البروتستانتية بقيادة «مارتن لوثر» الألماني. وخسرت الكنيسة ملايين الأتباع، وخسرت أيضا هيبتها السابقة بسبب الاتهامات ضدها من الفرق الدينية التي نشطت في أوروبا. وكانت إحدى الوسائل لمجابهة ذلك التحدي هو تأسيس جمعية علمية بهدف نشر التعليم بفروعه المختلفة وبالذات العلمية منها. وسميت الجمعية «جمعية يسوع» واشتهرت باسم «جيزويت» Jesuit. وانتشرت كالنار في الهشيم فزاد أعداد أفرادها وانتشروا في العالم وأنشأوا المدارس في مختلف البلدان. وكان تركيزهم على الرياضيات والعلوم بشكل خاص. وأصبحوا من أهم الفرق المسيحية في العالم من خلال أنشطتهم التعليمية.. وللعلم، فالبابا «فرانسيس» الحالي ينتمي إلى ذلك الفريق. والغريب أنهم منذ نشأتهم في القرن السادس عشر رفضوا فكرة متناهيات الصغر بشكل عنيف جدا واعتبروا تلك الفتافيت من علامات الجهل المشينة. وتسبب ذلك الرفض في أن إيطاليا بأكملها تأخرت في عالم الرياضيات، فأصبحت من الدول الراكدة فكريا في المجال. ولكن الفتافيت كانت مقبولة في ألمانيا التي كانت مصدر الفكر البروتستانتي. وكانت مقبولة أيضا في إنجلترا بسبب ضعف قوة الفكر الكاثوليكي فيها. ولا عجب أن تلك الدولتين أصبحتا من مصادر رعرعة أفكار رائعة في الرياضيات. وأدى ذلك إلى تغيرات جذرية في الفكر الرياضي عندما اخترع إسحاق نيوتن في إنجلترا، وجوزيف ليبنيتز في ألمانيا، أحد أجمل وأذكى مجالات الرياضيات وهو علم التفاضل والتكامل. وهي مجموعة أفكار رائعة مبنية على مبدأ الفتافيت.

أمنيـــــــة:


هذه مجرد قصة واحدة من ملايين «حواديت» الفتافيت التي غيرت العالم. أتمنى أن لا نهمل صغائر الأمور لأن التفاصيل الصغيرة التي قد نعتبرها تافهة قد تسبب أكبر التغيرات في مجالات عديدة لا يعلمها إلا الله عز وجل.. وهو من وراء القصد.