-A +A
عبداللطيف الضويحي
كَثُرَ الناس بيننا ومن حولنا في هذه الأيام يتحدثون عن ابتكاراتهم اليومية ومبادراتهم الرائدة والإبداعات الجديدة والمفيدة خاصة من الشباب والأطفال ومن الجنسين. كما هو معلوم فإن نسبةً قليلة من تلك الأفكار والمبادرات والابتكارات الفردية كفيلة بوضع البلد أي بلد على السكة الصحيحة من النمو والاستقرار والتطور الدائم، وأن الكثير من تلك الابتكارات والاختراعات كفيلة بتمدد مساحات الدول وسيادتها ونفوذها وقوتها فيما وراء حدودها الجغرافية والسياسية.

لكن تلك الابتكارات تتحول بأصحابها إلى بالونات من الأمراض النفسية المسكونة بالوهم والشعوذة وأمراض اجتماعية مثل الهياط والعنصرية والتشاوف والمضاهاة الاجتماعية، إذا انسد الأفق أمام هؤلاء وحُرِمَ المبتكرون والمخترعون من براءات ابتكاراتهم واختراعاتهم فيتحولون ليس إلى الصفر بل إلى ما هو أقل من الصفر بسبب الإحباط واليأس والشعور بالظلم وعدم العدالة ومن ثم الانتقام.


ساد بيننا للأسف اعتقاد خاطئ بأن الأفكار المهمة لا تأتي إلا من المهمين كأصحاب الأسماء اللامعة والمشاهير وأصحاب الشهادات العليا وأصحاب المناصب الرفيعة أو ذوي الوجاهات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية.

لحسن الحظ أن الأفكار الجيدة لا تخضع لقاعدة الغنى والفقر وأن الفكر الخلاق والمبادرات الحيوية لا تخضع للمكانة الاجتماعية ولا تعترف بفارق السن أو الجنس، لكن النفوذ أو السلطة التي يتمتع بها أو يستغلها البعض يجعل القوانين والإجراءات حبرا على ورق، مما يحول بين الفكرة وصاحبها، وبين الحق وصاحبه، بين العقل ومنتجاته، فينسب الفكرة لغير أصحابها ويعطي الحق المادي والأدبي للأقوى نفوذا أو الأكثر شهرة والأبرز منصبا سواء كان المجال هو البحث العلمي أو الاختراعات والابتكارات الصناعية والتقنية أو العلامات التجارية.

لقد ساعد على هذه الفوضى في حفظ الحقوق وتوثيق الملكيات جهل الكثيرين بوجود مرجعيات حقوقية رسمية، كما ساعد على تلك الفوضى البيروقراطية والتعقيدات الإجرائية الإدارية الحكومية التي تعوق الوعي العام ليعرف أن هناك ثلاث مرجعيات رسمية لحفظ الحقوق والابتكارات والعلامات التجارية، هي الإدارة العامة لحقوق المؤلف وتتبع لوزارة الثقافة والإعلام، وإدارة براءة الاختراع وتتبع لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وإدارة العلامات التجارية وتتبع لوزارة التجارة والاستثمار.

من حسنات الرؤية السعودية 2030 ومن ضروراتها أن صدرت موافقة مجلس الوزراء أخيرا على وضع الترتيبات القانونية والتنظيمية والإجرائية للهيئة السعودية للملكية الفكرية، وذلك بدمج كافة الإدارات الآنفة الذكر ونقل اختصاصاتها تحت هذه المظلة الجديدة مع ما يتطلب ذلك من تشريعات وقوانين تدفع بهذه الحقوق إلى مصاف الدول الموقعة على اتفاقات الدولية في هذا المجال.

من المهم ألا تتكور الهيئة الوليدة على نفسها وألا تصبح نخبوية تخدم فقط الأسماء اللامعة والعناوين الاجتماعية والإدارية والمشاهير فقط، من المهم أن تلامس الهيئة بأهدافها الأرض، وأن تصل إلى شبابنا وأطفالنا في مدارسهم وحيثما كانوا من خلال وعيهم ومعرفتهم واهتماماتهم وقدراتهم ومواهبهم، ولا تنتظر أن تعترف جامعات دولية ومنظمات عالمية ببناتنا وأبنائنا لتعترف هي بجهودهم.

يجب أن يعرف الجميع حقوق ابتكاراتهم وأهمية براءات اختراعاتهم، لكن الأهم هو أن تضمن الهيئة للجميع براءات مصنفاتهم الإبداعية، وتكفل لأصحابها الحقوق الكاملة دون ترك أي ثغرة يمكن استغلالها والدخول من خلالها، وأن تسن الهيئة القوانين والإجراءات التي تكفل تسجيل الحقوق منذ اللحظة الأولى آليا دون تدخل بشري خاصة في المرحلة الأولى التي يتقدم بها لتسجيل ما لديه وذلك بأيسر وأسرع الطرق التقنية الحديثة، وتقليص التدخل البشري في هذه الإجراءات إلى أدناه. والاستفادة من الدروس السابقة بهدر الفرص التي ضاعت وقد تضيع بسبب الإجراءات وجهل العديد من الأطراف بالحقوق الفكرية وما يترتب على هدرها على صعيد صاحب الحقوق، وعلى المملكة كدولة يهمها استقطاب الاستثمارات وعلى السمعة المستقبلية للبلد في كافة المجالات. فكما هو معلوم فإن الملكية الفكرية هي أحد أنواع الملكيات التي نصت عليها القوانين والحقوق و الشرائع.

هذه الإجراءات حتما ستنعكس إيجابيا على سمعة المملكة حقوقيا واستثماريا واقتصاديا واعتبارها بيئة قانونية وحقوقية من خلال تطبيق القوانين الكفيلة بحماية الملكيات وحقوقهم وردع المعتدين على تلك الحقوق بالسرقة والتزييف والتزوير والقرصنة والاستنساخ والتقليد والحد من الغش بكل ما حملته التجارة الإلكترونية وتحديات التقنية.

مطلوب من هيئة الابتكارات لكي تنسجم مع المرحلة ومع التطلعات، أن تنفتح على الجميع خاصة الشباب والأطفال بما في ذلك توعيتهم، وتقديم الضمانات بعدم اختراق إجراءاتها من قبل المتنفذين، ووضع لائحة بأسماء المبتكرين والمخترعين والمبدعين تنشر بالجريدة الرسمية والقنوات الإعلامية الرسمية.

إنما تتمدد الأوطان وراء حدودها الجغرافية والسياسية، بابتكارات واختراعات مبدعيها ومؤسساتها العلمية، وتنكمش الأوطان دون حدودها الجغرافية والسياسية بانحسار ابتكاراتها واختراعات مواطنيها.