-A +A
محمد مفتي
من المفارقات أن قطر لا تزال تحيا في الماضي وتحديداً في عصر الستينات الماضي؛ حيث تسود الأفكار المؤامراتية والانقلابات العسكرية في زمن كانت فيه دول العالم مستقطبة ما بين عالمين، إما أن تنتمي للمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة أو للمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي البائد، وبمجرد انتمائها لأحد المعسكرين تبدأ على الفور في محاولة تفكيك أواصر الدول الأخرى التي تنتمي للمعسكر الآخر وتقويض أركانها حتى تتمكن من ضمها لمعسكرها، وهو الأمر الذي يحدث عادة من خلال تقوية معارضي تلك الدول ودعمهم حتى يتمكنوا من إزحة النظام المناوئ لهم وتثبيت أقدامهم في تلك الدولة لتصبح تابعة لهم قلباً وقالباً، وهكذا تستمر الأمور حتى يسيطر طرف على طرف آخر.

للأسف الشديد لا يزال يطغى هذا الفكر المؤامراتي على عقول زعماء قطر، وعلى الرغم من أن العالم بدأ في تغيير جلده تماماً عقب سقوط المعسكر الاشتراكي وتفككه، إلا أن قطر بدأت منذ منتصف عقد التسعينات تقريباً إعادة عقارب الزمن للوراء، ولكن هذه المرة ليس من خلال الانتماء لمعسكر دولي، بل من خلال زعامة إقليمية زائفة تستمد شرعيتها من نقض وتفكيك زعامات دول المنطقة الأخرى بقدر ما تستطيع، وبهمة غير معتادة سارت قطر في خطين متوازيين؛ خط إعلامي يزيف الحقائق ويبث الفرقة بين مواطني الدول الأخرى وبين حكامهم، وخط سياسي ــ وعسكري إن لزم الأمر ــ لدعم المعارضة في الدول الشقيقة واستضافتها ودعمها بل وتجنيسها بالجنسية القطرية أيضاً في الكثير من الحالات.


في واقع الأمر لا تصرح قطر بما يعتمل داخل نفوس زعمائها من حب جارف وعميق للزعامة ورغبة جارفة في السيطرة والتحليق فوق أكتاف العباقرة، وهي بهذا المسلك تذكرنا برواية «دكتور جيكل ومستر هايد»، والتي رغم كونها أحد أدبيات القرن التاسع عشر إلا أنها لا تزال تعبر أشد التعبير عن الشخصيات التي تعاني انفصالاً مزمناً بين جوهرها ومظهرها، والتي تسعى لإخراج أحقادها المدفونة من خلال شخصية أخرى غير الشخصية المتزنة الهادئة الخلوقة المعروفة بين الناس، فها هي قطر تبدو أمام العالم وعبر وسائل الإعلام دكتور جيكل الهادي محب السلام، ومن خلف الستار مستر هايد الخبيث الشرير الفظ الكريه.

لا تحيا قطر كدولة مثل أي دولة تهدف للعيش بسلام وسط محيطها الإقليمي، تهتم بشؤون مواطنيها وتسعى لجذب الاستثمارات الأجنبية لداخل الدولة، بل تعيش في وضع متأهب يتخذ وضعية الاقتناص طيلة الوقت، فهي تترصد الأوضاع من حولها وتتربص بزعماء الدول العربية لإسقاطهم وإحلالهم بزمرة من الإخوان، ولذلك نجد أن المنظومة السياسية القطرية تعتمد على ثلاثة محاور: الإخوان، والإعلام، والثروة؛ فالإخوان هم المنبع الفكري الذين يستقون منه أفكارهم الضالة، وأيديولوجيتهم تمثل الكاتولوج -الدليل- الذي يوجه سياسة قطر، ويذكرني ذلك ببيت الشعر «إذا كان الغراب دليل قوم، سيهديم إلى دار الخراب»، أما الإعلام فهو الذراع السياسية الذي يتمكنون من خلاله من السيطرة على الآخرين وتأليب الشعوب على حكامها، وأخيراً الثروة فهي الرافد المالي الذي يمولون من خلاله العنصرين السابقين.

ما حدث من قطر قد يكون جرحاً يصعب اندماله للأبد، فكيف يمكن أن تؤتمن بعد ذلك محاضر اجتماعات المجلس الأعلى لدول الخليج العربي، كيف يمكن أن تعود المياه لمجاريها مرة أخرى بين دول البيت الخليجي في الوقت الذي تخشى فيه هذه الدول من قطر أن تسرب وثائقها وأسرارها للأعداء؟ كيف يعود الأشقاء أشقاء مرة أخرى وهم لا يأمنون شقيقتهم الصغرى من أن تطعنهم من الخلف كما تفعل الآن وفعلت من قبل؟ ربما لو لبت قطر مطالب الدول الداعية لمكافحة الإرهاب فإن العلاقات الرسمية سيتم استئنافها، ولكن هناك مطالب لا يمكن رفعها إلى دولة قطر، بل يصعب توصيفها على نحو دقيق جامع مانع، إنها متطلبات تفرضها أواصر الدم ووحدة اللغة والتاريخ والدين، وما لم تقم بها قطر من تلقاء نفسها طواعية فلا أمل في أن يعود الوضع إلى ما كان عليه أبداً من قبل.