-A +A
فؤاد مصطفى عزب
في ضواحي ميسوري قرية صغيرة اسمها «بارك فيل» وعلى طرف القرية العريقة مطعم قديم جداً يملكه مواطن عجوز امريكي يدعي (بل) و(بل) محارب قديم شارك في حرب فيتنام رغم انه كان ضدها وعلى الرغم من صغر المطعم إلا أنه مكان هادئ ونظيف.. الصوت العالي الوحيد فيه هو مروحة السقف التي تدور ببطء وصوت (بل) الأجش العالي الجهوري وهو في ذلك عكس زوجته ذات الصوت المذبذب مثل تخطيط القلب البياني والتي تنحدر من جذور فيتنامية ومن هنا كان لونها المشابه للون البن المحروق.. والمطعم غريب كصاحبه ولكنه مريح كنافذة أمل في فنجان قهوة يشغل المطعم الجزء الخلفي من منزل (بل) كل شئ فيه قديم الأواني والمعدات والأثاث يقوم الأب باستقبال الزبائن أما الأم والابنة الكبرى فهما في المطبخ والصغرى تحمل الطلبات على باب المطعم يقابلك كلب عجوز يختلف عن كلاب المطاعم التي يزداد نباحها كلما ظهر زبون جديد كلب (بل) عجوز مثله يبسط ذراعيه ويغفو أمام المطعم ولاينبح على أحد فقد فقًد من زمن القدرة على النباح عكس صاحبه الذي على الرغم من انه ممن وهن العظم واشتعل الرأس والقلب والمرارة والبنكرياس والسكري والضغط العالي إلا أنه دائماً حاد في نقده للحكومةالأمريكية وكأنه خنجر لايملك إلا ان يجرح ويعري المجتمع الأمريكي من أكبر مؤسساته إلى اصغرها ويمارس حريته في الحديث كما يؤمن بها.. وكما أن «بل» من اصول قروية وغالباً من ينحدرون من هذه الأصول يكونون في الغالب متحفظين في اختياراتهم الاجتماعية إلا ان (بل) على عكس ذلك يعشق المحادثة في السياسة مع الجميع ويسرد النكات الدسمة ويعلن حنقه الشديد على المساعدات لإسرائيل ويعتقد أن المساعدات هي الضريبة الوحيدة التي يدفعها مرغماً وبغير قناعة.. لديه حفيد له ابتسامة صافية كالندى فوق أوراق الليمون تجد صورة هذا الحفيد في كل ركن من أركان المطعم يذهب به كل يوم للمدرسة في سيارة من تلك السيارات التي لانشاهدها إلا في الأفلام الأمريكية القديمة.. لاحظ (بل) في احد زيارته لفصل حفيده ان الفصل مكتظ بالتلاميذ اعتبر (بل) ذلك التجاوز قضيته فتحول لكلب مسعور بداخله سعاروحشي اعلنه في منشوراته «أطفالنا ليسوا ساردين» وانتقل هذا السعار إلى بقية سكان المنطقة، أصبح الشارع المقابل للمدرسة يطفو كل صباح بأولياء الأمور كالأشرعة المبحرة فوق سطح القرية الرمادية وصار (بل) يظهر على الشاشة وصفحات الصحف وتحول موقفه إلى حكاية تروى وازدادت حلقاتها اتساعاً مع مرور الأيام تماماً كما تتسع الحلقات في بركة الماء أثر سقوط جسم ثقيل فيها وظل (بل) يمارس حياته الواعية حتى استجاب المسؤولون لقضيته وأنشأت الجهة المختصة مدرسة حديثة مساندة وذلك لامتصاص الزيادة في عدد الطلاب في المنطقة وعاد (بل) إلى مطعمه يغني بصوته الأجش اغاني فلاحية ويدخن تبغه القروي المفروم ويضع ملصقاً كبيراً أعلى باب الثلاجة الضخمة كُتب بخط اليد «المعنى الوحيد لحب الوطن هو العمل لأجله» وكوفئ (بل) على عمله بأن منحته الصحيفة المحلية اشتراكاً سنوياً مجاناً ومنحته المنطقة لقب مواطن العام المثالي أما المدرسة المنشأة حديثاً فمنحته عضوية مجلس إدارتها حين تسأل (بل) عن مشاعره ورأيه فيما حدث يشير بسبابته وبطريقة تهكمية أن تقرأ الملصق أعلى باب الثلاجة «المعنى الوحيد لحب الوطن هو العمل من أجله ».