دير العشائر هي النقطة الساخنة التي انسحب منها الجيش السوري، وان كانت سطوته لا تزال موجودة، انها قرية منسية، اعادتها السياسة الى الاضواء، ورغم ذلك فشلت في اعادة الماء والكهرباء اليها.الانتقال الى «الدير» على الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا، كالسفر الى بلد جديد وليس الى قرية لبنانية، فحواجز الجيش اللبناني اول ما يستقبلك للتدقيق في الهوية والسؤال عن الهدف من الصعود، والضابط المشرف لا يتردد في القول «البطاقة الصحفية لا تعنينا، الهوية اللبنانية فقط تسمح لكم بالعبور».
طريق ضيق، طويل، عبرنا منه صعوداً لا شيء نراه سوى قرى هجرها أهلها إلى الغربة طلباً للقمة العيش والأمان، فقرية «عين عرب» لا نرى فيها أية عيون، فيما مرافقنا يقول «هذه القرية المياه لا تصل إلى منازلها، وأهلها بمجملهم مهاجرون إلى كندا»، وبين «عين عرب» و»دير العشائر» فقط أعمدة إرسال للفضائيات اللبنانية والعربية، فنحن نقف على تلة تعلو 1800 متر عن سطح البحر.
...إنها «دير العشائر» كلمات قالها مرافقنا. نظرنا من زجاج السيارة حيث الثلج يرسم حدود الطريق ويسبغ لونه الأبيض على التلال والأشجار، قرية ترتمي على كتف واديٍ لتشرف على كل الأودية والتلال حتى تسبح معها في الخيال توقظك منه سيارة لقوى الأمن الداخلي اللبناني يترجل منها عسكري ويخاطبنا «لا تصوروا من هنا فهذا خطر على حياتكم، منذ أسبوع قتل مهندس في المكان نفسه».
بين حب الحصول على صورة تفيد تحقيقنا وحب الاستمرار في الحياة على هذه الأرض كان خيارنا ركوب السيارة والانطلاق باتجاه القرية.
خط الامداد
«بو عارف» الرجل المسن في القرية «81 عاما» لم تنسه مشاق الأيام التاريخ والذكريات بل تزيده قريته عزيمة وقوة وهي التي لم تكن ولا لمرة واحدة خارج الزمن والأحداث، يعود بو عارف سنوات إلى الوراء وهو يتذكر كل الامجاد، فدير العشائر كانت مركزاً للثوار عام 1958 وكانت تشكل خط الإمداد بين سوريا ولبنان. كان شبلي آغا العريان قائد الثورة في ذلك العام، وقد دارت معركة كبيرة بين الدرك، على أيام حكم الرئيس كميل شمعون، والثوار دفاعا عن زعيمهم الذي كان مهدداً بالاعتقال. ويتحدث بو عارف بكل فخر على ان الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد امدهم بالسلاح عبر سوريا لدعمهم بالمعركة فيقول:«في أول المعركة كنا 15 فرداً وواجهنا المعتدين علينا. كنت واحداً منهم، وكانت معركة قاسية وجميلة».
اما تسمية القرية بدير العشائر يقول بو عارف بانها : «جاءت نسبة لوجود أربع عشائر في القرية، كما أن ديراً في القرية ما زالت بعض من معالمه موجودة في القرية فسموها عشائر أما دير فيعود إلى وجود آثار قديمة فيها، أذكر أنني كنت في سن الخامسة عشرة حيث قدم بعض المصورين إلى هنا. ورأيت صوراً معهم تشير إلى الدير، فسألتهم عن عمر هذه الآثار، فقالوا لي يعود تاريخه إلى مئتين وعشرين عاماً لقد رأيته في الصور مسقوفاً اما منذ وعيت كان الدير دون سقف».
جيرة ونسب
قصة دير العشائر مع سوريا قصة جيرة وتواصل منذ مئات السنوات فبحيرة زرزر الواقعة داخل الاراضي السورية تراها بوضوح من دير العشائر ويصف بو عارف هذه العلاقة فيقول : «كانت طبيعية جداً، فلم تكن هناك أية خلافات بين المواطنين، كما ان الذهاب إلى سوريا والقدوم إلى لبنان، كان جداً عادياً لا احد يستوقف الآخر، في فصل الشتاء الثلوج تقطع الطرقات بين الدير والمنطقة اللبنانية لمدة ثلاثة أشهر. لذا كنا نتسوق من سوريا ونؤمن كل حاجياتنا ونشتري الأدوية، أما اليوم فأقفلت المعابر غير القانونية السهلة بسبب منع «الضابطة السورية» من الجانب الآخر لنا بالعبور ورغم ذلك لم نتأثر لأننا نؤمن حاجاتنا على مدى عام». ويتابع بو عارف «إن العلاقات السابقة بين المواطنين وصلت لحد التزاوج بينهم، ومن الجانبين، فالنسب موجود. فمنذ عام 1930 لا أذكر أنه كانت هناك أية خلافات».
أما كيف يمضي أهالي دير العشائر أوقاتهم فهو في التعايش مع بعضهم. فبو عارف يقول إن القرية كلها تشكل بيتاً واحداً، عندما كانت الحرب مشتعلة تلوثت المياه، فاجتمعنا في البلدة وشاركنا جميعاً في تجميع مبلغ لانشاء بئر في الأرض.
أما الكهرباء فدخلت إلى دير العشائر في أيام حكم اللواء فؤاد شهاب وكذلك شقت الطرقات في ذلك العهد.
كل ما يطلبه بو عارف أن تهدأ الامور في لبنان ويقول: «يجب ان نكون جميعنا لبنانيين يدا واحدة عائلة واحدة».
واذ يتذكر الماضي والحاضر يرى بو عارف الذي عايش التاريخ اللبناني ان الوضع اليوم أهدأ مما كان عليه إن كان في ثورة الـ 1958 أو في زمن الاحتلال الاسرائيلي أو في زمن الحرب الأهلية «المهم ان يتوحد الشعب ونحن نعول على الجيل الجديد ليستمر بمسيرة جيلنا».
ظلم الموقع والاهمال
من جهته نائب منطقة دير العشائر في البرلمان اللبناني وائل أبو فاعور قال لـ«عكاظ»: «إن الظلم الأكبر لهذه المنطقة هو موقعها الجغرافي، اذ إنها منطقة متقدمة داخل الأراضي السورية، وفي كل الحالات بالفترات التاريخية كانت هناك وحدة علاقات. أما الظلم الثاني فهو في فعل الإهمال الذي مارسته الدولة من قبل. فأولاد دير العشائر كانوا يعانون الكثير اذ كانوا يأخذون طريقهم إلى المدرسة منذ الساعة الخامسة والنصف صباحاً بفعل عدم وجود طرقات معبدة. والمسافة التي تتطلب عشرين دقيقة تستمر معهم حوالي الساعة والنصف. هذه العوامل كانت أيضاً تنعكس على مجيء الأهالي إلى الناحية اللبنانية للتبضع أو للاستشفاء وغيره، كما ان القرب من المناطق السورية جعلت العلاقة مع الداخل السوري متطورة. فكان السكان يتوجهون إلى دمشق بدلاً من التوجه إلى المناطق اللبنانية».
واضاف أبو فاعور : «ان التطورات السياسية التي حصلت مؤخراً عكست نفسها على أولاد دير العشائر، وقد دفعوا أثماناً كثيرة، فالمأكل والمازوت كانت تتوفر لهم عبر ذهابهم إلى دمشق، الآن لم يعد باستطاعتهم التوجه إلى هناك نظراً للمضايقات التي يتعرضون لها».وقال «نعمل على تحسين ظروف السكان هناك، من خلال تعبيد بعض الطرقات ومحاولة فتح مركز للشؤون الاجتماعية في القرية. هناك سكان تركوا دير العشائر ليسكنوا مناطق قريبة للداخل اللبناني. ولدير العشائر بالذات تركيبة مختلفة عن باقي المعابر والنقاط الحدودية، اذ ان مزرعة الدير يسكنها مواطنون سوريون والحدود بين البلدين وهمية، والتداخل كبير في الأراضي والأمور صعبة».