-A +A
فؤاد مصطفى عزب
هذا مساء أشعر أن شيئاً ما في داخلي.. شيء لا علاقة له بالأحياء.. شيء يخصك يرتبط بمدفنك تحت الأرض، خيالك يتقدم نحوي يبحث عن مدرج للهبوط فوق روحي استيقظ قبل طلوع الفجر.. وما الجديد يا حبة الروح فبعدك اتقنت الصحو وفقدت القدرة على الاستسلام للنوم فبرحيل كفك الرطبة لا أحد يعرف كيف يداوي جروح المساء.. أسير إلى قبرك وتحت حذائي يئن الطريق أسير وحيداً كجندي مهزوم أتألم على طريقتي دون أن يحس بي أحد أجرجر قدمي أتجه نحوك بكل حنيني، كل ما تبقى مني يأتي إليك لألمسك.. خدر جميل يذوب في أعصابي.. أضع ذراعي حول كتف قبرك أركن صدري إليك تتهاوى صلابتي تنتشر الغصة في حلقي وتتسرب الدموع من وراء قوتي وإيماني بالقضاء والقدر.. للصمت حصة كبيرة في إضفاء الوحشة والوحدة على هذا المكان.. ليتني ما عشت يوماً حملتك فيه لهذه الوحدة.. ليتني ماولدت لأصل هذا اليوم.. صمت المكان يفتتني.. كنت أخاطبك بلا صوت.. كم أفتقدت الحديث إليك عن قرب أسمع صوت إقامة الصلاة من مكبر المسجد القريب اخطو للمسجد استعيد عباراتك ونبراتك وصوتك اللامنسي استسلم للذكريات المدفونة في أعماقي أحلم وعيني مفتوحة.. أصل المسجد أؤدي صلاة الجماعة أدعو لك وحزن ينخر قلبي كقطرة (تيذاب) أذهب لزيارة شقيقتي أتوقف عند غرفتك أتأمل الجدران والأرض والنوافذ والباب لم تتغير تلك الغرفة كثيراً لكن شكل الدنيا تغير من حولنا بعدك.. ذلك المربع الزهري الكبير غرفتك تحول إلى مكان عديم الجدوى يتقاطع فيه ضوء الماضي بظلام الحاضر.. تتصاعد رائحتك من الغرفة رائحة أكبر من حديقة استسلم لرائحة الشم تدمع عيناي خلف نظارتي فالفقد أضفى على تلك الحديقة قتامة وتجهماً وجعلها مكاناً بارداً كضفة نهر... أغمضت عيني لثوان استعيد طيفك وذكرياتك وكيف لا يسعني ألا أتذكرك وأنت غائرة في الروح.. حدقت في الجدران البيضاء العارية لازالت بيضاء ناصعة كريش الحمام كانت العين تفتش عن تلك العينين الواسعتين الصافيتين كالتأمل ووجهك المستدير الجميل.. نظرت إلى طرف الغرفة «الشبشب» لازال هناك كجرج لامرئي على الأرض.. شعرت بصعوبة في التنفس وأنا أتفحص الغرفة فكل شبر فيها يثير شيئاً دفيناً في النفس ويترك في الحلق طعم الرماد.. لقد توقف التاريخ في هذه الغرفة عند جبينك يا أمي وتوقفت البهجة وحلاوة الروح.. أعود لمهجعي المطل على البحر أجلس ورأسي يتكئ على الزجاج أحضن ركبتي بين ذراعي واستعرض أياماً مرت معك خطفاً كمناظر القطار السريع وأبكي بحرقة من لا يستطيع استبدالها بغير ذلك وأحدق في الخيط الأزرق.. أتأمل الزرقة القاتمة أتخيلك آتية من الطرف اللانهائي من البحر ماشية فوق الماء.. تخيل مضطرب استسلم لعواطفه البلهاء فأتوهم أن من يموت يعود! أمنية مستحيلة وسعادة كاذبة مؤقتة.. يقولون يا أمي إن أقسى شيء على الإنسان أن ينتظر غائباً لا يعود وأن يبحث عن نوم وهو في أشد حالات التعب ولا يجده لقد صرت هذا الإنسان بعد رحيلك يا أمي فوجهك الذي لا يغادر دورتي الدموية لا تنطبق عليه أحلام الرجوع ولقد زلزلني عناد الموت فأحال ليلي لمحطة يقظة تهب النهار شمسه كل يوم.. ستظلين في وجداني يا حبيبتي ما حييت وسأبكيك ككل يوم.. ومن لي أن أبكيه أكثر منك.. كنت أكره الحزن لأنك تكرهينه أصبحت أعشق الدمع وأعيشه فهو المكان الوحيد الذي أجدك فيه وأجدني فيه سيظل مكانك حيث أحسك.. وسيبقى زمانك أجمل أوقات العمر.