-A +A
فؤاد مصطفى عزب
شيخي الذي أحدثكم عنه اليوم يسمونه المرض الحيارى شاطئ الأمل ففي كل يوم كان يحج إليه حشود من مختلف الأجناس والأعمار من الموجوعين في المملكة والخليج من السيدات الذين كان ينمو في داخلهم الألم كالعشب.. يسافرون إليه من أماكن متفرقة وكان هو يستقبلهم على عتبة عيادته ليوزع عليهم الكلمات ويغسلهم بضياء النصيحة ويخيط لهم من علمه وتجربته أثواباً ملونة فيحول دموعهم إلى ابتسامات وحنايا عيونهم المتعبة إلى عصافير ملاعب.. شيخي الذي أحدثكم عنه اليوم لم يشخ لازال في نفس السن الذي رأيته فيه أول مرة في رمضان قبل اثنين وثلاثين عاماً كنت أرنباً صلباً أحاول البحث عن منحة دراسية وكنت أقيم في جدة حيث الحياة كانت أضيق من ظلمة في غرفة كانت عبارة عن قبر تتميز عن القبور بأن فيها إنساناً يتنفس ويحلم.. صحوت في ذلك الصباح وقصدته في مكتبه كان عميداً لكلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز وكان وحيداً ولم يفاجأ إطلاقا عندما رآني كان أول من سعيت للقائه وعرفت بعد ذلك أن الله استجاب لدعائي فقد كنت عندما أنتهي من صلواتي أدعو الله أن يجمعني بالإنسان النقي الخالص الذي هيأته أعماله ليكون كائناً نورانياً لاشائبة فيه وتعرفت من يومها على شيخي ذلك العنوان الكبير للحياة بكل ما تجود به الحياة من قيم إنسانية ومعانٍ خالدة.. مستودع فسيح من المعرفة ومخزون واسع للرحمة والشفقة يتنفس الإنسانية بأرستقراطية دائماً على شفتيه صلوات الشكر على النعمة حتى في أيام الشدة.. له بسمة عريضة تشق الشمس.. كان ذلك الإنسان عندما يحدثك يغلق تابوت الإنسانية عليك ويرش السكر على أطرافك.. إنسان يفهمك ولا يجاملك يقبض على جمر محبة الآخرين بكفيه العاريتين.. وخبز وعجن لنا شيخي الدكتور عبد الله حسين باسلامة فطائر الحكمة الممزوجة بعسل التجربة والفضيلة كان ينير لنا الطرقات عن آخرها حتى خُيل لنا أن ليس في هذه الحياة ليل.. وكان يرعانا جميعاً في كلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز رعاية متصلة دون تميز فمنحنا أماناً وحناناً وحلماً عريضاً وشهَد حياة وكان قادراً على ابتكار الأصدقاء فبيته في شارع حسين باسلامة بالحمراء المتواضع البسيط لم يكن يخلو أبداً من الضيوف كان هذا البيت مأوى وملجأ لنا ومنبعاً للعلم والفكر الماتع السخي وركناً يشفي كل شيء وكان يوم الجمعة رئة الأسبوع وجزعة لنا فقد كنا نجتمع به في منزله البحري نلتقي به كمنارة خلعت ضوءها للبحر تعطي ولا تنتظر المقابل وأصبحت بقية الأيام جسر إنتظار لنا نترقب هذا اليوم الذي نجتمع فيه إليه.. كان عندما يتحدث إلينا نتحول إلى طيور تناولت قمحاً مخدراً فحديثه ممتع كالركض في حقل أخضر.. كان يحتفل بنا ويستقبل الخريج منا بسعادة المبدع بإكتمال القصيدة وكان يرسلنا للخارج الواحد تلو الآخر لنتعلم ونتطور ونجحنا بتشجيعه ودعمه فقد ربَّى فينا حب العلم والطموح كما يجب وكان شديد الإختيار فقد كان ذا بصيرة ثاقبة لا يراهن أبداً على جواد ميت وكان رغم هيئته الأبوية لديه شموخ البنايات الرومانية وتواضع قمح الفقراء.. أيها السيد الجليل الرائع الصادق الشفاف النقي.. لقد أتيت إلي في هذا اليوم بدون ميعاد فملأت هذا العامود بكلمات الشوق إليك واحتضنتك بكل سنين العرفان بمعروفك علي وآخرين!!!