-A +A
عزيزة المانع
كتب الأستاذ محمد الحساني مرة كلاماً تشم منه رائحة الاستخفاف بالدراسات الإنسانية، وذلك في تعليقه على استئناف وزارة التعليم العالي ابتعاث الطلاب للدراسة في أمريكا وأوروبا وغيرها. والكاتب الكريم يرى، كما جاء في مقاله المنشور في «عكاظ» يوم الأربعاء غرة صفر 1427هـ العدد (14431) أن معظم المجالات العلمية التي يبتعث الطلاب لدراستها هي في الدراسات الإنسانية كعلم النفس والتاريخ والاجتماع والآداب والنقد واللغات والفنون وأمثالها من «مجالات أخرى نظرية (باهتة)» وأن هذه المجالات العلمية التي وصفها بأنها باهتة لا يتوقع منها نهوضاً بالمجتمع فهو يقول: «ماذا ننتظر من شهادات عليا معظمها في علوم نظرية غير أن يعود كل مبتعث ليعمل في حقل التدريس الجامعي في تخصصه أو في الملاعب والأندية أو في جمعيات الفنون التشكيلية، وليس في المختبرات والمعامل ومواقع الإبداع والاكتشافات والمنجزات العلمية..».

وهذا الاستخفاف بالدراسات الإنسانية من الأستاذ الحساني، حتى وإن جاء على خفيف بأسلوبه الساخر المحبب، يظل في ثناياه يحمل غمطاً للفكر، وأجده يعكس نوعاً من الفلسفة البراجماتية تدفع بالكاتب إلى أن يستخف بأهمية ابتعاث الطلاب لدراسة العلوم الإنسانية مقدماً عليها العلوم التجريبية والصناعية. هذه النظرة المستهينة بالدراسات الإنسانية قد يكون سببها كون هذه الدراسات لا يظهر أثرها في المجتمع في صورة حسية مباشرة كما هو الحال في الدراسات التجريبية والصناعية، فتكون موضع ازدراء البعض. فالناس يريدون دراسات تساعدهم على التخلص من الأمراض وعلى كسب المال وعلى حل مشكلات الحياة التي تنبع ما بين حين وآخر، والدراسات التجريبية والصناعية، في نظرهم، هي ما يحقق ذلك فهم يرون مباشرة وبوضوح ارتباطها بما يحتاجون إليه. أما الدراسات الإنسانية فلا يظهر لها أثر حسي بارز في حياتهم ومن ثم هم لا يشعرون بقيمتها الفعلية في المجتمع.

ينسى الناس أن الدراسات الإنسانية هي القاعدة في تشكيل الفكر الإنساني، وأنها هي الموجه الرئيس لما يطرأ على حياتهم من تغيرات تتصل بالجانب الفكري، بل ينسون أن الدراسات الإنسانية هي الدعامة الخفية فتلك الدراسات التجريبية والصناعية التي فازت بالتفضيل. فالحضارات الإنسانية بنيت على الفكر قبل أن تُبنى على العلوم البحتة أو الصناعات؟ ويؤيد هذا أن النهضة الأوروبية قبل أن تلتفت إلى دعم العلوم والصناعة بدأت بدعم البناء العقلي، فركزت على تحرير العقول وتحوير الأفكار قبل أن تبدأ بتدريب الأيدي. وعندما يبتعث الطلاب لدراسة علم النفس أو الآداب أو الفنون أو ما شابهها من العلوم الإنسانية، هم يبتعثون في المقام الأول للنمو العقلي. فمن المسلم به أن من يدرس الأدب من منظور فكري ليس كمن يدرسه نصوصاً فنية للتذوق، ومن يدرس اللغة من منظور علاقاتها بالتطور البشري والفكر الإنساني ليس كمن يدرسها من منظور قواعدها والشاذ والمألوف فيها. وطالما أن المعول الأساسي في تقدم المجتمع هو تطبيق النظرة العلمية عند معالجة مظاهر الحياة في المجتمع في مختلف أشكالها، فإن الدراسات الإنسانية متى كانت مبنية على منهج التفكير العلمي الصحيح في الافتراضات وتنظيم الأفكار والاستدلالات والاستنتاجات، لا تعد دراسات (باهتة)، وإنما هي دراسات علمية نافعة تسهم في تقدم المجتمع حتى وإن كانت في التاريخ أو الجغرافيا أو الأدب.

وأجد كاتبنا الكريم بخس الدراسات الإنسانية حقها وظلم أولئك المبتعثين الأوائل الذين قال عنهم: «عادوا يحملون درجات الدكتوراة والماجستير فبماذا عادوا؟ وأين آثارهم الحميدة على الحياة الصناعية والمنجزات والاكتشافات..».

فكون معظم المتبعثين كانوا متجهين للدراسات الإنسانية فلم يتركوا أثراً يُذكر في دعم العلوم الطبيعية أو الصناعية في المجتمع، ليس مبرراً لأن ينكر أثرهم في إحداث تغيير واضح للعيان في ثقافة المجتمع وتوجهاته. كما أنه وإن كنا نتفق مع الأستاذ الحساني في عظم حاجة المجتمع إلى دعم الدراسات التجريبية والصناعية إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون على حساب التقليل من منفعة الدراسات الإنسانية أو دورها في دعم النهضة الاجتماعية، فالمجتمعات لا تنهض بأحدهما دون الآخر، وهي في حاجة إليهما كليهما، رأس يفكر ويد تعمل.