-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أذهب إلى مكة في هذا الشهر الفضيل للعمرة.. مكة في ثوبها الليلي المدهش قبل صلاة الفجر.. الضوء الوردي يحيط بالجماد والبشر.. المعتمرون يتجهون إلى المسجد الحرام يكتسحهم فرح كوني.. أترك لعيني الانفلات بلا هدف أركن عربتي في مدخل «شعب عامر» أمام بيتنا القديم البيت نفسه الذي كانت أمي يرحمها الله تصر علينا أن نغلق بابه وراءنا عند دخولنا إليه تحوّل الباب إلى دكان للملبوسات الجاهزة ذلك الباب كأنني أراه لأول مرة ساكناً سكون أهل الكهف.. ما أقسى عبث الأيام.. فعلاً «شر الفكاهة ما يبكي»!! أجوب الشارع الذي هجره الفرح.. مرارة الحنين تتحول إلى مخدر لذيذ يتسلل في شراييني.. أمر ببيت «العمران» بيت جيراننا.. البيت الذي امتزج بدفء طفولتي الذي تزوجت أخواتي الأربع فيه والذي ظل ولفترة من الزمن يسكن عند ميناء عيني تحول لفندق وشقق مفروشة كانت عائلة «العمران» امتداداً لعائلتي عندما كان الجار يحب جاره حتى الحب ويخاف عليه مقدار الخوف.. أمرّ بمكان كان فيه «فرن عمي عبدالعال»، أشم رائحة الخبز البرّ منه وأرغفة الفينو أبحث عن إنسان أعرفه في ذلك الشارع كأنني أبحث عن واحة في سراب لا أحد أعرفه لا أحد يعرفني.. أتجه نحو البيت الحرام عبر «الجودرية».. أنساب ببطء كجدول كسول.. بيوت بسيطة ودكاكين متعانقة مازالت على حالها مرشوشة هنا وهناك كخرز ملون هذه البيوت التي أصبحت وشماً منقوشاً في بؤبؤ العين.. أمر ببيت «الطيب» ومنزل جد زوجتي «السيد هاشم علوي» مازال ذلك المنزل يتكئ على نفسه في ذلك الزقاق الضيق.. مبانٍ قديمة مازال فيها طعم الأزمنة القديمة وأخرى تجاورها حديثة كناطحات السحاب التي ترفس بحذائها الأرض لاطعم لها ولا لون.. أمرّ بدكاكين مازالت أسماء أصحابها تنتصب فوقها كذكرى «الأماكن هي هي والوجوه تغيرت».. تباغت عيني لوحة إعلانية لمحل عطور تحمل اسم قبيلة عريقة.. يدير المحل عامل بنغالي.. أصل المسجد الحرام.. صوت الأذان صافياً نقياً.. آه ما أجمل هذا الصوت وما أجمل هذه المدينة.. مكة نعم مكة ما غيرها التي تستوعب حزن الجميع وفي كل الأوقات.. تنتهي العمرة.. أعيش صفاءً ذهنياً رائعاً وأشعر بذاتي خفيفة كأنما تخلصت من أثقال رزأت تحتها أشهر عدة هكذا أكون وبهذا أشعر ما إن أقوم بزيارة المسجد الحرام وأداء العمرة.. شاب يتلفن هوائياً بلا توقف ويحمل مقصاً يعرض خدمات التقصير على المعتمرين أبتسم له بخوف «من يسلم رأسه لمجنون» أعود مع الابتسامات الأولى لشمس يوم جديد كزورقٍ تائه باتجاه «شعب علي» مروراً «بالغزة».. أمر بالساعة الكبيرة المنتصبة والتي لايتطابق عقربها مع الوقت الحقيقي.. أطفال يقفزون خلفي كأنهم قرود مدربة أحاول التخلص منهم.. أصوات الباعة تنادي بأصوات تتوسل المشترين على السلع المختلفة المفروشة على الأرض في حرية فوضى.. الورد المجفف.. أعواد السواك.. المستكا.. الكحل.. المسابح الملونة.. حقائب جلدية تداهمهم الشرطة.. يهرولون.. يلتفتون خلفهم بنظرات حادة.. مسنّ انعكس الصباح على وجهه الأسمر المتعب تفاجئه موجة من السعال ينشغل بالبحث عن منديل في جيبه.. أتعرف عليه يسألني أقول له اسمي الأول والأخير.. يتعرف عليّ أنت فلان ابن فلان ابن فلان ابن فلان أربعة أجيال يؤكد بها معرفته بأهلي يعانقني.. يدعوني للإفطار معه.. تنفجر براكين الذاكرة وجوه تمر بي من جديد كصورٍ أراها من نافذة قطار سريع تتصل بهذا المسن وأصدقاء لأبي رحمه الله ظلوا ولفترة طويلة على صلة بنا يسألون عن أحوالنا بعد وفاته.. أتجه إلى «المعلا» كأي ابن عاشق لامرأة انجبته تحللت جثتها تحت التراب حيث الحيطان الحزينة المطلية بلون يميل إلى لون البكاء أذهب إلى المربع الترابي الصغير الذي تحفظه عيني غيباً أقبله وادعو لها بالرحمة كما ربتني صغيراً اللهم أرحم والدي ووالدتي وجميع أموات المسلمين «آمين».