-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أتتني سيدة الأسبوع الماضي جامحة.. نافرة كعنق فرس محموم ما أن تكلمت حتى تحولت إلى قطة مستأنسة قالت لي «إنني أفكر جدياً في الإقدام على عملية إجهاض جنيني ولقد رفض الأطباء في مستشفاكم ذلك، فهل من يفعل ذلك في مستشفى آخر تدلني عليه»نظرت إليها نظرة عتاب مبطن ورحت أحدثها عن ذلك الجنين وعن الحب المشترك الذي سينشأ بينهما وأن هذا الحب الذي لم تعهده من قبل سيجعل العالم أجمل وحدثتها عن تجربتي في استقبال طفلي الأول (فراس) وكيف أن ذلك الشيء الصغير عندما كبر كثف حجم الحب والانفتاح والرفق والتقدير الصادق في حياتنا ووعدتها بأن أقدم لها المساعدة التي تريد شريطة أن تبقي على حياة طفلها ولم أكد أفرغ من إكمال حديثي حتى انفجر الكلام من فمها كحبوب ذرة في مقلاة «أنت تتحدث عن عملية مونتاج مستحيلة.. أنا امرأة غير قادرة على منح الحب والحنان والعطف لطفلي القادم لأن فاقد الشيء لا يعطيه أنا امرأة رهينة قفص رجل له سمات المهرجين فهو إنسان محترم في الصباح وفي المساء هو برميل عفن تفوح منحه رائحة الكحول يسعل بشدة كاندلاع نباح مجاور يصطدم بكل شيء يعترض طريقه كقطار مفلوت من قضبانه ويرطن بشتائم منقرضة، لقد أصبحت عودته المسائية ظلال مشنقة على حائط لقد حولني هذا الرجل إلى امرأة مدججة بالدموع لا تخبز إلا الحزن.. يتمدد الرمل الطويل في أهدابي ويبكر الألم كالديك صائحاً عند الصباح في حياتي لقد رجوته يوماً أن يفيق من غفوته ويمنحني ملجأً كريماً نعيش فيه أنا وابنه المنتظر فهو يتقاضى مرتباً محترماً، كل ما فعله أن ألقمني شراعاً من قماش خشن يذكرك بالجفاف، غرفة متواضعة وحمام ومطبخ في مبنى يطل على اللاشيء أعيش فيه كأجر لم يسدد... انا امرأة زاهدة زهد الرماد ومن أسرة نقية كحبات المطر قبل أن يلتصق بالإسفلت كيف أنجب بالله عليك طفلاً في بيت تحول إلى مضيق يوصل بين هاويتين العابر بينهما مصيره البحر... هل تريدني أن أتحول إلى قطة تأكل لحم بنيها بيتي سعفه في مهب الريح والأمواج عائلتي والحب بيننا شيء طارئ يخبط المكان ككسرة ضوء لا تلبث أن تختفي» أتصغي لي!! أراك سهوت!! لماذا تبتسم هكذا ابتسامة العارفين!! لا.. فقط كنت سأسألك هل تحدثتما من قبل في كل ذلك!! وما فائدة الكلام عندما يصبح الوجه الآخر للصمت.. لقد تحدثت معه في هذا الموضوع حتى أصبح فمي عضواً عاطلاً لا يعبر إلا عن الخسارة.. لقد ضاق مؤخراً من حديثي فاستبدل لغة الكلام بلغة السواعد والأقدام وشكوت الأمر لعائلته وكأنني شكوت الخريف للشجر والمدخنة للفضاء.. شكراً على استماعك لي على كل حال.. أدعو الله أن لا تريك الحياة ارتباكها.. اعذرني إن طلبت منك حلاً لا يرضي الله فالكارثة أحياناً تعمي المصاب وتجعل الحياة كالرمانة اليابسة ورحلت تلك المطحونة ليطحنني المكان بعدها وينتابني ذهول أعرابي ضل الطريق في ضواحي مدينة ضخمة أكبر ما فيها سيرك يضج برجال فاقعي اللون وثارت نفسي الشرسة تهاجمني بالصراخ والعويل والدموع.. ماذا حدث لكم يا معشر الغجر!! هل أصبحتم تعيشون في سوق الجزارين حيث الهمجية أصبحت تعلو على الإنسانية.. كيف سيصبح الإنسان صالحاً إذا كان لديه إحساس أن لا أحد يحترمه ويحبه!! لماذا لا يعترف (المدمن) العربي بعدم قدرته على تدبير أمور حياته وأنه بحاجة ماسة للمساعدة وأنه مريض يحتاج للعلاج وأخرست تلك النفس اللجوجة بأن قلت لها.. كل ذلك سيتغير إن دربنا أبناءنا يوماً على ألا يشعروا بالخجل عندما يكشفون عن عمق ذاتهم للآخرين بصدق وعندما تختفي عن أعيننا تلك النظرة الحارقة التي تجعل الطفل ينكمش على ذاته كإصبع اليد المغلقة إن اعترف بذنب وعندما تتعامل المرافق الصحية مع أسرار مرضاها (المدمنين) الذين يأتمنونها عليها على أنها مازالت قسماً منهم وعندما نقر ونتصالح مع واقعنا ونعترف به ونخلع أقنعتنا التي تجعلنا أحياناً نمشي لنعيش في عداء مستمر مع أنفسنا.. عندما يحدث كل ذلك تنتهي كل الحيل التي نلجأ إليها والتي تنبع دائماً من نمط الحياة الذي ننتقيه لأنفسنا.