-A +A
أحلام محمد علاقي
ربما لم أسعد منذ سنوات بقراءة سيره ذاتيه كما سعدت، مؤخرا، بقراءة «حياتي مع الجوع والحب والحرب» للكاتب المبدع الراحل عزيز ضياء (1914 ــ 1997). وهو كتاب ليس بالجديد في تاريخ صدوره، فقد طبع في عام 1995، ولكنه أحد هذه الكتب التي لا تفقد قيمتها، بل تزداد ثمنا بمرور الوقت، ليس فقط لقيمته الروائية، وإنما لتأريخه تأريخا دقيقا لحقبة زمنية ممتدة من الحرب العالمية الأولى إلى الثانية، وهي فترة ثرية بالأحداث التاريخية والمتغيرات الاجتماعية في الحجاز ــ حقبة ندر فيها الإنتاج الأدبي في مجال السيرة الذاتية المحتوية على تفاصيل تاريخية بالغة الأهمية وغير معروفة للأجيال الحالية. إنه نتاج رائع يمثل ما يسميه علماء التاريخ History from below، وهو فرع من علم التاريخ يتناول التاريخ من وجهة نظر الأفراد العاديين.. إنه تاريخ الناس: عن الناس ــ ومن أفواههم أو أقلامهم يروون ما عاصروه من أحداث وما رأوه من تبعات لأحداث مهمة غيرت حياتهم كما غيرت حياة الألوف غيرهم ــ للأبد.
فبحس الروائي المتمكن، وبتوثيق المؤرخ الدقيق، وبتجريد الفنان المبصر للتفاصيل يأتينا السرد سلسا شيقا بليغا مذكرا القارئ برائعة الفرنسي مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع.» فبينما يتذكر بروست كعك المادلين الشهي الذي يذوب في الفم مستحضرا صورا قديمة من الطفولة ــ يستحضر عزيز ضياء، وهو طفل صغير قدر «الحيسة» ذات الرائحة الشهية، والتي ظلت في ذاكرته مرتبطه بذلك اليوم الرهيب الذي أفاق فيه ــ أو بالأحرى دفع فيه قسرا وهلعا ــ لأن يفيق مذعورا ــ ليلحق وعائلته بالقطار الذي غير رحلة حياته للأبد ــ القطار الذي نقله من حياة الرغد والأمان والاستقرار والصحة والسلام في المدينة إلى حياة الفقر والخوف والضياع والمرض والحرب في دمشق وبعدها حماة ثم حلب بسبب الحرب العالمية الأولى. وبين ذاك الوقت وذاك مشاهد رهيبة للموت في الطرقات أثناء الحرب: «لم أكن قد نسيت ألوان ومشاهد العذاب التي عشتها مع هذه الأم، بعد أن مات الجميع، ولم يبق لنا أحد.. تلك المشاهد في شوارع حلب وطرقاتها، وعربات نقل الموتي: تجمعهم من الأرصفة ليتلامح بينها إنسان، لا أكاد أتبين صورته ملامح وجهه، حتى تزحمه عشرات أو مئات الملامح والصور (الجزء 2 ــ ص. 12).

فالحرب أففدته خالته الحبيبة الحنونة الجميلة خديجة، وهي حبه الأول والحضن الدافئ الذي لم ينسه قطـ، وأفقدته أخاه عبد الغفور وابن خالته عبد المعين الذي مات دون أن يرى أباه، وأخيرا جده ذا الشخصية المهابة والقلب الكبير ــ الشيخ أحمد صفا شيخ حجاج القازاق ــ وهو الرجل ذو المكانة الرفيعة في المجتمع المدني ــ آنذاك. كما أفقدته الأمان حينما أفاق ذات ليلة مظلمة ليجد اللصوص في منزلهم المؤقت في حماة ينهبون كل نفيس وغال ليتركوا الأسرة بلا مال أو أثاث أو قدرة لشراء قوتهم عدا بعض أرغفة الخبز الأسود المغموس بالملح ودبس الرمان. الحرب التي أجبرت جده الشيخ أن يخرج أدواته ويعيش على مورد صناعته للأختام والتي كان يجيدها. الحرب التي فرضت عليه وعلى الألوف وقتها الجوع والخوف: «كان الجوع شيئا، لا أزال أقول، حتى اليوم، إنه أخطر ما يتعرض له الإنسان من مصائب وكوارث.. إذ أشد ما كان يعانيه جدي، ومعه أمي من الآم، وعذاب، حين لا يجدان نفسيهما عاجزين تماما عن أن يؤمنا حتى هذا الخبز، ليس لهما، وإنما لي أنا في المرحلة التي بدأت أشفى فيها من التيفوس» (الجزء 2- ص 116).
وبعد موت الجد بدأت رحلة العذاب للصبي الصغير وأمه التي اعتبرها بحق ــ وبكل المقاييس ــ بطلة. أمه التي كان يناديها «ففم»، والتي كانت ذات ذكاء وصبر وجلد وحسن تدبير يندر وجود مثلها. ما بين ألمها على فقدان أفراد أسرتها الواحد تلو الآخر، ليس في وطنها، وإنما في الغربة وما بين الفقر المدقع والحرب والمرض والخوف والوحدة ــ خلا من طفل صغير وهو بطل السرد ــ ظلت صامدة إلى أن نجحت في العودة لأرض المدينة المنورة التي لعقت ترابها يوم الرجوع. وفي أشد هجمات الألم كانت تتذكر تفاصيل صغيره تهون عليها عذاب الموقف ــ كما هو حين احتفظت بالشرشف الأبيض الكبير والنظيف وعطر الورد اللذين استخدمتهما في تكفين والدها الشيخ تكفينا يليق بمقامه.
إنها سيرة ذاتيه أكثر من رائعة ــ تستحق ليس فقط القراءة، بل وأن تدرس في جامعاتنا كمثال لسيرة ذاتية محلية على مستوى العالمية بل وتفوق على كثير منها بلا أي مبالغة. إنها قصة إنسان في صراع أهوال الحرب وقصة قوة النفس الإنسانية وقدرتها علي البقاء والإبداع بعد الألم والحرمان والخوف. أما تلك الأم ــ وقد أهدى عزيز ضياء كتابه إليها ــ فهي بحق بطلة القصة، وتكاد تكون تجسيدا دقيقا لرمز الأم في كل الثقافات: الكائن الذي يعطي بلا حدود وبلا مقابل.
ومن أجمل ما في الكتاب، وهو من أجزاء ثلاثة، دقة التصوير السينمائي في سرد الحدث من بؤرة ترتكز على أحاسيس الطفل الصغير وانفعالاته، وبلغة أهل السينما فإن الفوكالايزر يرتكز على الطفل ويمنحه قوة التعبير لإيصال الحدث وتكوين الصورة. ولعل من قرأ أيام طه حسين يستدرك الفرق في السرد بين السيرتين ــ فضمير الشخص الثالث في أيام طه حسين يولد انفصال ــ مقصود من الكاتب ــ بينه وبين الشخصية في السيرة. ولكن ضمير المتحدث في سيرة ضياء يمنح الحدث قربا وحميمية مقصودة، ما يساهم في تقريبه للقارئ وطي المسافة بين الورق والواقع. باختصار ــ إنها سيرة جميلة، رائعه رغم كل ألمها ــ وجزء من تراث تاريخي وروائي وأدبي يستحق التقدير والانتشار. فما أشد حاجتنا اليوم كجيل الإنستجرام والواتساب لأعمال هادفة تثقيفية وتعليمية تعيد تذكيرنا بتاريخنا الذي لا نعرف عنه إلا القليل.