-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عرفته في المستشفى الجامعي طبيباً نموذجياً لونه بلون مياه الأنهار في زمن السيول بارد الأعصاب مستقيم الأخلاق أميناً وفياً مشهوداً له بالنبوغ في تخصصه لديه اندفاع هائل نحو القيم الخيرة والأخلاق القويمة والجرأة والبذل سخي الابتسام تادباً واحتفاءً لاخنوعاً وتملقاً نبهاً طموحاً ينتمي إلى اصول قبلية عريقة كان الجميع يستغرب سلوك هذا الطبيب ويقارن ذلك بأفكاره ومعتقداته ومبادئه ولا أحد يحظى بالجواب كان الجميع يجزم بأنه يعيش عالماً غير الذي نراه كان يختلف عنا تماماً في لهاثنا على هذه الحياة الفانية كان يقرض أصحاب الحاجات مالاً ولايسأل عنه وكانت أفكاره بالنسبة لي تشبه حائطاً قديماً في زقاق ضيق، وكان هو على الطرف الآخر لايعبأ بأحد فهو إنسان مرتاح داخل جلده كان يحمل سراً غريباً لايعرفه حتى المقربون منه هو تنصله واعتذاره الدائم عن القيام بالمناوبات الليلية خلال أيام عطلة نهاية الأسبوع، مهما كان المقابل والثمن كُنت وغيري من العاملين في المستشفى نظن أنه يختفي يومي الخميس والجمعة من أجل الراحة والاستجمام أو ان لديه شأناً خاصاً يشرف عليه في هذين اليومين دائماً عندما كنت أساله عن السبب يظل صامتاً جامداً كتمثال من البرونز، رغم انه طليق اللسان يجيد التعبير المناسب وبسرعة مذهلة كأنه يقرأ أجوبته من كتاب، إلا أنه كان مؤدباً أدباً جماً مرت فترة ليست بالبسيطة وأنا اقتات علي أعصابي وكأن عناده يزيد بل ويستفزني.. قررت يوماً أن أضع حداً لهذا العناد فجاهرته بالسؤال، قلت له وبصراحة أقرب إلى الغباء إنه مالم أجد مبرراً مقنعاً لتصرفكم المستمر حيال المناوبات الليلية خلال عطلة الأسبوع فأنني سأقوم بعرض الموضوع على المجلس الطبي لاتخاذ مايراه مناسباً سقط صمت طويل بيننا برهة بعد أن قلت له ذلك ثم نطق ذلك الرجل الجليدي ببرودته التي تطحن الأعضاء وتكوي العظام: إن كنت مصراً على ذلك عليك ان ترافقني في نهاية هذا الأسبوع في رحلة أقوم بها في نهاية كل أسبوع قد تشبع فضولك وتضع حلاً للخلاف بيننا وأشترط على ألا أبوح بشأن الرحلة وبما اراه خلالها لأي كان.. قال لي أنه سيسطحبني في سيارته بعد صلاة الفجر مباشرة.. صبيحة اليوم التالي حملني في سيارته المصابة بعدة (إنبعاجات) في نواحٍ مختلفة وأتجه خارج جدة.. كانت زوجته المحجبة تجلس في المقعد الخلفي ورافقته دون تردد أو ريبة كان يمسك المقود بيديه الاثنتين ويحدثني في أشياء كثيرة دون الإشارة إلى المكان الذي نتجه إليه حتى أختفت جدة وبدأنا السير في طريق وعر كانت الشمس شاحبة تطل بخيوطها بحياء من وراء الغيمات المتقطعة كلما أقتربنا إلى ما يشبه قرية. واستمر يقودنا في دروب ضيقة متعرجة نمر تارة ببساتين مسيجة بالباطون والأسلاك وأخرى بيوت طينية هادئة ومتشابهة ومتباعدة. ثم توقف أمام مبنىً لا لون له تآمرت الشمس والرياح على طلائه ففقد لونه. قال لي: هذه عيادتي تفضل. كانت العيادة عبارة عن حجرة لها سقف مرتفع تتدلى منه مروحة صغيرة ذات ثلاث ريشات وطاولة كشف بسيطة ومكتب خشبي متواضع وثلاث كراسي وعرفت بعد ذلك أنه يأتي لهذه القرية في نهاية كل أسبوع وبشكل منتظم يعالج مرضى القرية بلامقابل ويحمل لهم الأدوية التي هي عبارة عن عينات مجانية وأن مساعدته في هذا المهمة هي زوجته وأن مدير العيادة هو «العم لافي»، رجل ريفي مسن ناهز الستين رغم قامته الهزيلة إلا انه كان منتصب القامة بادي النشاط كشفت لي هذه الرحلة اليتيمة وجهه الآخر المنير، وعرفت بعد ذلك كيف أن هذا النبيل كان يفضل ان يخالف المتبع على ان يخالف أعرافه الإنسانية القبلية وكسب طبيبي الذي لازلت أحتفظ باسمه حتى لا أفقده الجولة... قابلته بالأمس فمرّ فيلم الذكرى بسرعة دون انتظام فعرضته لكم.. فيلم حقيقي.. شخوصه حقيقيون.. لكن البطل لايرغب أحد أن يعرف اسمه!!