-A +A
فؤاد مصطفى عزب
بعد أن قمت بترجمة الرسالة التي وصلتني «هي لاتعرفني ولكني أعرف من هي» أرسل عديد من القراء الكرام إلي بعضاً من القصص الإنسانية الجميلة شعرت بإمتنان كبير لهم وانا اقرؤها وأحسست أنني في نزهة لاتنتهي وأنني مطالب بترجمة المزيد لكم مما يصلني بين الحين والآخر.. اسمحوا لي ان اقدم لكم هذه القصة التي أرسلها لي احد القراء بعد أن قمت بترجمتها لكم من الإنجليزية.. حكاية يستطيع القارئ منا أن يتابعها بمتعة فيكتشف أو يتأمل أو يتألم.. أحداث إنسانية يجد الإنسان فيها نفسه لانها قصته الحياتية التي لانهاية لها عبر الزمن.. يروي هذه القصة طفل فقير يقول كان أبي وأمي نموذجين للشقاء الموروث فجدي وجدتي أيضاً فقراء.. كنت ابن عامل بسيط يعمل في مصلحة البريد نقتات من توزيعه الخطابات الواردة لأهالي قرية صغيرة في حجم قمحة في وسط الغرب الأمريكي ونتيجة لتلك الظروف الاقتصادية الطاحنة التي كانت تعيشها أسرتي كنت أجرجر فقري في ازقة القرية اقتل نفسي في العمل لأوفر مصاريف دراستي كنت اعمل في أي شيء من اجل ذلك الهدف وكنت أكثر الأطفال عملاً في القرية.. رغم ذلك كانت القرية جميلة بالنسبة لي «الجمال في الأشياء عادة نألفها» كان يوماً من ايام شهر أغسطس حارقاً باهتاً كان الجو حاراً والعرق يغمرني كانت طبقة من الحر البليد تغطي المنازل المتلاصقة كان السعير لهباً يكسو الأرض والعشب يابساً من الهبوب الحار كانت قدماي هما اللتان تمشيان بي فجأة شعرت بألم الجوع الحاد في بطني وكان العطش كقبضة ملح في حلقي فالشمس البطيئة الحارقة كانت تسري في عروقي ولا تدع مجالاً لي سوى الاتجاه إلى المنزل المقابل، كانت المسافة إلى ذلك المنزل قصيرة حقاً لكنها مميزة.. قرعتُ جرس الباب.. ظهرت لي امرأة باهرة الجمال فتحت الباب على مهل كانت المرأة على مشارف الخمسين ذات كتفين عريضين سألتني ماذا أريد أوضحت لها انني جائع وظمآن أمسكت بكتفي النحيل وقالت لي بصوت امومي اليف: تفضل !! ما أن خطوت داخل المنزل حتى شعرت بيدها تلمس شعري برقة كما تفعل الأمهات ثم مسحت بيدها العرق السائل من رقبتي بذلت جهداً جباراً ألا تصعد الدهشة إلى وجهي.. أجلستني على طاولة الطعام الخشبية في المطبخ كان المنزل ينطق بالراحة والأمان قدمت لي كوباً مثلجاً عملاقاً من الحليب أمسكته بيدي الاثنتين وأخذت أتجرعه بسرعة غافلاً عن نظرات السيدة التي كانت تنظر إلي بشفقة وهي تقوم بتسخين بعض الطعام بعد ذلك قدمت لي وجبة ساخنة سخية كانت سخية بالنسبة لي لازلت أتذكر أطباق المكرونة التي تناولتها والصلصة الحمراء وطعم اللحم المطبوخ وشرائح الخبز الأبيض المفروك بالطماطم والجبنة والثوم والزبدة، أنصرفت آكل الطعام بشراهة حتى انتهيت كنت ألعق الأثر المتبقي في الطبق بتلذذ الشبعان.. ما ان انتهيت حتى التفت إليها كان في جيبي دولار !! سألتها ان تقبل ذلك.. ضحكت ثم أجابتني بابتسامة مفعمة بالحنان العفوي «انت لست مديناً لي بشيء لقد علمتني أمي ألا أخذ أبداً شيئاً مقابل المعروف» وطارت الأيام كعادتها مضت كما تمسح الأم رأس طفل وكبرتُ وأصبحتُ طبيباً مشهوراً ومديراً لأكبر وأشهر مستشفى في المدينة كان ذلك النجاح توفيقاً إلهياً وتعويضاً لي عن حرمان طفولي مضى.. في يوم شتوي مكفهر من أيام يناير عند ساعات الصبح الأولى كان على الهاتف من يدعوني أن أتوجه لقسم الطوارئ.. ذهبت للقسم لأجد حال وصولي نفس السيدة التي أطعمتني وسقتني وربّتت على كتفي طفلاً.. كانت في حالة بائسة بحجم جحيم.. كان وجهها أصفر.. وكان نحولها بادياً للعيان وسعالها كإيقاع طبل.. شاحبة تعاني من الم شديد في الصدر.. كانت عيناها تضطربان باحمرار شمس مغيبة.. كانت ملامح الفزع واضحة عليها.. ولم تميزني فلحيتي المشذبة التي خالطها الشيب لم تكن تحتل وجهي عندما طرقت بابها في ذلك الصيف القائظ.. اخذت اتأمل ملامح العجوز المتعبة وما صنعه الزمان بتلك المرأة الجميلة التي قدمت لي كأس الحليب والطعام أمعنت النظر فيها وتحسست ذكريات بعيدة تدفقت في قلبي بإنكسار أحسست نحوها بعطف لاأعرف كيف أفسره وسهرت على رعايتها حتى عادت تلك السيدة بعد أسبوعين من عالم الموت عادت علمياً من أعداد الموتى «كمخلوق بحري أعيد ثانية من الرمال بعد أن سُحب للشط وجاءني موظف من الإدارة المالية يبلغني وهو يحمل فاتورة علاجها بأن المرأة تعيش ظروفاً مالية قاسية لن تمكنها من سداد ثمن العلاج أخذت الفاتورة من المحاسب.. التقطت قلمي وكتبت أسفل الفاتورة «سُددت بالكامل لقاء كوب مثلج من الحليب ومسحة على رأس طفل» التوقيع الدكتور/ هورد كيلي.. تمت أقوال الدكتور/ هورد كيلي.. وتمت ترجمتي لكن القصص الإنسانية لا تنتهي!!