-A +A
فؤاد مصطفى عزب
كرسالة بريد ضائعة عادت يوماً لزيارتي لظروف إنسانية إحدى الطالبات اللواتي ساعدتهن يوماً في استكمال بحث درجة الماجستير في الإدارة التمريضية وما إن أخذنا نتبادل الحديث حتى سألتها إن كانت بدأت في ممارسة مهنة التمريض التي نالت شهادة فيها فأجابتني قائلة: «كلا لأنني أعاني من سرطان في الدم وباتت أيامي معدودة» صعقت لسماع هذا الخبر وصرت أحدق في اللاشيء، كأن فيلاً حبشياً سقط من عمارة عليّ فما أشد لطمة أن ترى لحماً حياً في الثلاثين يتطاير أمامك فجأة بعد أن ضربه السرطان ولم أتمالك نفسي فسألتها عن شعورها وهي ابنة الثلاثين يملؤها الأمل والحياة وفجأة تجد نفسها وجهاً لوجه مع الموت وتصبح أيام حياتها معدودة فأجابتني قائلة: «أنا لا أعرف كيف أشرح لك ولكنني أعيش الأن أسعد أيام حياتي فعندما تظن أن أمامك سنوات طويلة يمكن أن تؤجل الأمور فتقول سأزور المسجد النبوي العام القادم ولكنك عندما تكون على علم بأن أيامك معدودة تتوقف اليوم لتفعل ما تحب فعلاً ويصبح حتى لجريان الماء في ساق النبتة صوت وقيمة لديك.. أنا لا أقول إن وخز الحقن في العمود الفقري لا يؤلمني فآلام الحقنة في الظهر كالشرخ الحارق في الحلق وهذه الآلات لا تقارن إطلاقاً بالآلام الحقيقية التي تجتاحني أحياناً في الليل كالمطر سخية وقاسية ترتجف منها حتى أصابعي كالأغصان.. وأحس وكأنني معلقة من عنقي في رافعة لا تعمل وأتهاوى على الأرض كقمح الفقراء من الألم.. ما أقوله إن عزائي الوحيد في النهاية هو ما أناله من الدفء والحب والحنان الذي يحيطني به زوجي وأقاربي وأصدقائي، ثم طال الحديث بيننا فتكلمنا عن الموت وكيف يدفع بنا ذلك المجهول أحياناً، إلى أن نعيش حياة مرتبكة قالت لي «كان عندي خياران بعد أن تمكن مني المرض: أن أتمدد في سريري كرف طويل في مكتبة مهملة وأن أمد يدي للنسيان وأدعه يقصقص أظافري وأن أتفرج على أيامي المتبقية تنسلخ من حياتي كدمعة قبطان يشاهد أفول سفينته الغارقة ولا يفعل شيئاً سوى التحديق فيها وتحضير عدة الموت أو أن اصطاد أيام حياتي المتبقية بصنارة وقد فضلت الخيار الثاني فطائر النورس لا يوزع عنباً على الغرقى حملت سلة الإرادة وقنينة الحياة وصرت أتصرف مع أيامي كمن يربي الألوان في مغارة أضرب لنفسي موعداً كل يوم لألتقي مع ذاتي وأدخل في أعماق نفسي بهدوء وطمأنينة أفعل أشياء كثيرة مؤجلة وأرفض أخرى كنت أواجه حرجاً في رفضها وصار للوقت قيمة عندي فأصبحت لا أصرفه إلا مع من أحب وأنجزت أشياء كنت أخشى الإقدام عليها خوفاً من الفشل لأكتشف فجأة أنني كنت أستعمل فقط 10% من قدراتي والتسعون بالمائة المتبقية غالباً ما كانت تموت في صمت بسبب التردد والخوف لقد اكتسبت من جديد 90% في مجالات الحياة ولك أن تتخيل لو أنه لم يحدث لي ما حدث لدفنت التسعين بالمائة مما أنعم الله به عليّ... أليس محزناً حقاً أن تتحول تسعون بالمائة من قدراتنا ومواهبنا إلى التراب!! هل تصدق لو قلت لك إن التغير شمل حتى ملابسي فأنا لم أعد ارتدي قماشاً يقسو على بدني أو يجعلني غريبة عن ذاتي لقد صرت لا أهتم كثيراً برضا العيون وعجل خطيبي بزواجنا بعد أن علم بإصابتي وكأنه أراد بهذه الخطوة أن يحيل الحياة إلى فعل محبة، وجازيته على ذلك بأن منحته حباً من قاع العُمق ذلك لأنه نظر إلى ما في ضعفي ولم يحدق فيه أو يتفحصه بل سلط الضوء على كل ما هو جميل فيّ وما أحد فعل ذلك من قبل».

وكنت قد قرأت من قبل أن الألم غالباً يستقطب كل انتباهنا ويوجهه نحو ذواتنا فالوجع الجسدي والهم والفشل والحزن وتعب الضمير كلها آلام تسلب منا القدرة على التفاعل مع الحياة عندما نكون قسماً منهاً بل تجعل الإنسان منا ينغلق على نفسه ليصبح محوره ذاته وكأن الله أرسل لي هذه السيدة لتقول لي إن ما سمعته من قبل استثناء وليس قاعدة وإننا في هذه الحياة سائحون عابرون ننعم بما سمح الله لنا به من محاسن فيها وأن هذه الحياة لن تكون فعل محبة ما لم نغير ما بأنفسنا وأن ذلك عسير جداً إلا أنه القرار الفاصل بين أن نعيش حياة المؤمنين أو نعيش حياة البائسين..

وماتت عشبة الغياب، وذهبت إلى العزاء لأقبل جبين ذلك الرجل الذي قال لتلك المرأة حبي أقوى من السرطان، وقال لنا إن الرجل الكامل شخص فاعل لا رد فعل وأنني هو ذلك الرجل الذي مارس رجولته بسخاء لإسعاد امرأة وأن ذلك جل ما أملك كإنسان.